الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم الصراط المستقيم : هو الخير والرشاد .

فالإشارة إلى ما يؤخذ من الجملة الواقعة بعد اسم الإشارة المبينة للإخبار عن اسم الإشارة وهي جملة إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ، فتكون الإشارة إلى غير مشاهد تنزيلا له منزلة المشاهد ، وتنزيلا للمسموع منزلة المرئي .

ثم إن هذا المنزل منزلة المشاهد هو مع ذلك غير مذكور لقصد التشويق إلى سماعه عند ذكره ، فاسم الإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن ، كما يكتب في العهود والعقود : هذا ما قاضى عليه فلان فلانا أنه كيت وكيت ، أو هذا ما اشترى فلان من فلان أنه باعه كذا وكذا .

ويجوز أن تكون الإشارة إلى الاستثناء الذي سبق في حكاية كلام إبليس من قوله إلا عبادك منهم المخلصين لتضمنه أنه لا يستطيع غواية العباد الذين أخلصهم الله للخير ، فتكون جملة إن عبادي ليس لك عليهم سلطان مستأنفة أفادت نفي سلطانه .

والصراط : مستعار للعمل الذي يقصد منه عامله فائدة ، شبه بالطريق الموصل إلى المكان المطلوب وصوله إليه ، أي : هذا هو السنة التي وضعتها [ ص: 52 ] في الناس وفي غوايتك إياهم ، وهي أنك لا تغوي إلا من اتبعك من الغاوين ، أو أنك تغوي من عدا عبادي المخلصين .

و مستقيم نعت لـ صراط ، أي : لا اعوجاج فيه ، واستعيرت الاستقامة لملازمة الحالة الكاملة .

و ( على ) مستعملة في الوجوب المجازي ، وهو الفعل الدائم الذي لا يتخلف كقوله تعالى إن علينا للهدى ، أي : أنا التزمنا الهدى لا نحيد عنه ; لأنه مقتضى الحكمة وعظمة الإلهية .

وهذه الجملة مما يرسل من الأمثال القرآنية .

وقرأ الجمهور علي بفتح اللام وفتح الياء على أنها ( على ) اتصلت بها ياء المتكلم ، وقرأه يعقوب بكسر اللام وضم الياء وتنوينها على أنه وصف من العلو وصف به صراط ، أي : صراط شريف عظيم القدر .

والمعنى أن الله وضع سنة في نفوس البشر أن الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاويا ، أي : مائلا للغواية مكتسبا لها دون من كبح نفسه عن الشر ، فإن العاقل إذا تعلق به وسواس الشيطان علم ما فيه من إضلال ، وعلم أن الهدى في خلافه فإذا توفق وحمل نفسه على اختيار الهدى وصرف إليه عزمه قوي على الشيطان فلم يكن له عليه سلطان ، وإذا مال إلى الضلال واستحسنه واختار إرضاء شهوته صار متهيئا إلى الغواية فأغواه الشيطان فغوى ، فالاتباع مجاز بمعنى الطاعة واستحسان الرأي كقوله فاتبعوني يحببكم الله .

وإطلاق الغاوين من باب إطلاق اسم الفاعل على الحصول في المستقبل بالقرينة ; لأنه لو كان غاويا بالفعل لم يكن لسلطان الشيطان عليه فائدة ، وقد دل على هذا المعنى تعلق نفي السلطان بجميع العباد ، ثم استثناء من كان غاويا ، فلما كان سلطان الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاويا علمنا أن ثمة [ ص: 53 ] وصفا بالغواية هو مهيئ تسلط سلطان الشيطان على موصوفه ، وذلك هو الموصوف بالغواية بالقوة لا بالفعل ، أي : بالاستعداد للغواية لا بوقوعها .

فالإضافة في قوله تعالى عبادي للعموم كما هو شأن الجمع المعرف بالإضافة ، والاستثناء حقيقي ولا حيرة في ذلك .

وضمير موعدهم عائد إلى من اتبعك ، والموعد مكان الوعد ، وأطلق هنا على المصير إلى الله استعير الموعد لمكان اللقاء تشبيها له بالمكان المعين بين الناس للقاء معين وهو الوعد .

ووجه الشبه تحقق المجيء بجامع الحرص عليه شأن المواعيد ; لأن إخلاف الوعد محذور ، وفي ذلك تمليح بهم ; لأنهم ينكرون البعث والجزاء ، فجعلوا بمنزلة من عين ذلك المكان للإتيان .

وجملة لها سبعة أبواب مستأنفة لوصف حال جهنم وأبوابها لإعداد الناس بحيث لا تضيق عن دخولهم .

والظاهر أن السبعة مستعملة في الكثرة فيكون كقوله والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، أو أريد بالأبواب الكناية عن طبقات جهنم ; لأن الأبواب تقتضي منازل فهي مراتب مناسبة لمراتب الإجرام بأن تكون أصول الجرائم سبعة تتفرع عنها جميع المعاصي الكبائر ، وعسى أن نتمكن من تشجيرها في وقت آخر .

وقد يكون من جملة طبقاتها طبقة النفاق قال تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، وانظر ما قدمناه من تفريع ما ينشأ عن النفاق من المذام في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر في سورة البقرة .

وجملة لكل باب منهم جزء مقسوم صفة لـ أبواب وتقسيمها بالتعيين يعلمه الله تعالى . وضمير منهم عائد لـ من اتبعك من الغاوين ، أي : [ ص: 54 ] لكل باب فريق يدخل منه ، أو لكل طبقة من النار قسم من أهل النار مقسوم على طبقات أقسام النار .

واعلم أن هذه الأقوال التي صدرت من الشيطان لدى الحضرة القدسية هي انكشاف لجبلة التطور الذي تكيفت به نفس إبليس من حين أبى من السجود ، وكيف تولد كل فصل من ذلك التطور عما قبله حتى تقومت الماهية الشيطانية بمقوماتها كاملة عندما صدر منه قوله لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ، فكلما حدث في جبلته فصل من تلك الماهية صدر منه قول يدل عليه ، فهو شبيه بنطق الجوارح بالشهادة على أهل الضلالة يوم الحساب .

وأما الأقوال الإلهية التي أجيبت بها أقوال الشيطان فمظهر للأوامر التكوينية التي قدرها الله تعالى في علمه لتطور أطوار إبليس المقومة لماهية الشيطنة ، وللألطاف التي قدرها الله لمن يعتصم بها من عباده لمقاومة سلطان الشيطان ، وليست تلك الأقوال كلها بمناظرة بين الله وأحد مخلوقاته ، ولا بغلبة من الشيطان لخالقه ، فإن ضعفه تجاه عزة خالقه لا يبلغ به إلى ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية