الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم تكملة لإقامة الدليل على انفراده تعالى بخلق أجناس العوالم وما فيها ، ومنه يتخلص إلى التذكير بعداوة الشيطان للبشر ليأخذوا حذرهم منه ، ويحاسبوا أنفسهم على ما يخامرها من وسواسه بما يرديهم ، جاء بمناسبة ذكر الإحياء والإماتة ; فإن أهم الإحياء هو إيجاد النوع الإنساني ، ففي هذا الخبر استدلال على عظيم القدرة والحكمة وعلى إمكان البعث ، وموعظة وذكرى ، والمراد بالإنسان آدم - عليه السلام - .

والصلصال : الطين الذي يترك حتى ييبس فإذا يبس فهو صلصال وهو شبه الفخار ، إلا أن الفخار هو ما يبس بالطبخ بالنار ; قال تعالى خلق الإنسان من صلصال كالفخار .

[ ص: 42 ] والحمأ : الطين إذا اسود وكرهت رائحته ، وقوله من حمأ صفة لـ صلصال ، و مسنون صفة لـ حمأ أو لـ صلصال ، وإذ كان الصلصال من الحمأ فصفة أحدهما صفة للآخر . والمسنون : الذي طالت مدة مكثه ، وهو اسم مفعول من فعل سنه ; إذا تركه مدة طويلة تشبه السنة ، وأحسب أن فعل ( سن ) بمعنى ترك شيئا مدة طويلة غير مسموع .

ولعل ( تسنه ) بمعنى تغير من طول المدة أصله مطاوع سنه ثم تنوسي منه معنى المطاوعة ، وقد تقدم قوله تعالى لم يتسنه في سورة البقرة .

والمقصود من ذكر هذه الأشياء التنبيه على عجيب صنع الله تعالى إذا أخرج من هذه الحالة المهينة نوعا هو سيد أنواع عالم المادة ذات الحياة .

وفيه إشارة إلى أن ماهية الحياة تتقوم من الترابية والرطوبة والتعفن ، وهو يعطي حرارة ضعيفة ، ولذلك تنشأ في الأجرام المتعفنة حيوانات مثل الدود ، ولذلك أيضا تنشأ في الأمزجة المتعفنة الحمى .

وفيه إشارة إلى الأطوار التي مرت على مادة خلق الإنسان .

وتوكيد الجملة بلام قسم وبحرف ( قد ) لزيادة التحقق تنبيها على أهمية هذا الخلق ، وأنه بهذه الصفة .

وعطف جملة والجان خلقناه إدماج وتمهيد إلى بيان نشأة العداوة بين آدم وجند إبليس . وأكدت جملة والجان خلقناه بصيغة الاشتغال التي هي تقوية للفعل بتقدير نظير المحذوف ، ولما فيها من الاهتمام بالإجمال ثم التفصيل لمثل الغرض الذي أكدت به جملة ولقد خلقنا الإنسان الخ .

[ ص: 43 ] وفائدة قوله من قبل أي : من قبل خلق الإنسان تعليم أن خلق الجان أسبق ; لأنه مخلوق من عنصر الحرارة أسبق من الرطوبة .

والسموم بفتح السين : الريح الحارة ، فالجن مخلوق من النارية والهوائية ; ليحصل الاعتدال في الحرارة فيقبل الحياة الخاصة اللائقة بخلقة الجن ، فكما كون الله الحمأة الصلصال المسنون لخلق الإنسان ، كون ريحا حارة وجعل منها الجن ، فهو مكون من حرارة زائدة على مقدار حرارة الإنسان ومن تهوية قوية ، والحكمة كلها في إتقان المزج والتركيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية