الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 264 ] ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في عاشر المحرم منها عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم في السنة الماضية ، فاقتتل الروافض وأهل السنة في هذا اليوم قتالا شديدا ، وانتهبت الأموال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها عصى نجا غلام سيف الدولة عليه ، وذلك أنه كان في العام الماضي قد صادر أهل حران وأخذ منهم أموالا كثيرة فتمرد بها ، وذهب إلى بلاد أذربيجان فأخذ طائفة منها من يد رجل من الأعراب يقال له : أبو الورد ، فقتله وأخذ من أمواله شيئا كثيرا ، وقويت شوكته بسبب ذلك ، فسار إليه سيف الدولة فأخذه وأمر بقتله فقتل بين يديه وألقيت جيفته في الأقذار ومحل الجيف والنتن .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها جاء الدمستق إلى المصيصة في جيش كثيف فحاصرها ونقب سورها ، فدافعه أهلها ، فأحرق رستاقها ، وقتل ممن حولها خمسة عشر ألف [ ص: 265 ] إنسان ، وعاثوا فسادا في بلاد أذنة وطرسوس ، وكروا راجعين إلى بلادهم قبحهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قصد معز الدولة الموصل وجزيرة ابن عمر فأخذها من يد ناصر الدولة بن حمدان ، ثم سار في طلب ناصر الدولة ، فكر ناصر الدولة في جيش قد هيأه ، فاسترجع الملك من يد معز الدولة ، فعاد معز الدولة فأخذ الموصل وأقام بها ، فراسله في الصلح صاحبها ، فاصطلحا على أن يكون الحمل في كل سنة ، وأن يكون أبو تغلب بن ناصر الدولة ولي عهد أبيه من بعده ، فأجاب معز الدولة إلى ذلك ، وكر راجعا إلى بغداد بعد ما جرت له خطوب عظيمة طويلة قد استقصاها ابن الأثير في " كامله " وبسطها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ظهر رجل ببلاد الديلم ، وهو أبو عبد الله محمد بن الحسين من أولاد الحسن بن علي ويعرف بابن الداعي ، فالتف عليه خلق كثير ، ودعا إلى نفسه ، وتسمى بالمهدي ، وكان أصله من بغداد وعظم شأنه بتلك البلاد ، وهرب منه ابن الناصر العلوي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قصد ملك الروم ، وفي صحبته الدمستق ملك الأرمن بلاد طرسوس فحاصروها مدة ، ثم غلت عليهم الأسعار ، وأخذ فيهم الوباء ، فمات كثير منهم ، فكروا راجعين ، كما قال الله تعالى : [ ص: 266 ] ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [ الأحزاب : 25 ] . وكان من عزمهم يريدون أن يستحوذون على البلاد كلها ، فرجعوا خاسئين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها كانت وقعة المجاز ببلاد صقلية وذلك أنه أقبل من الروم خلق كثير ومن الفرنج ما يقارب المائة ألف ، فبعث أهل صقلية إلى المعز الفاطمي يستنجدونه ، فبعث إليهم بجيوش كثيرة في الأسطول ، فكانت بين المسلمين والمشركين وقعة عظيمة صبر فيها الفريقان من أول النهار إلى العصر ، ثم قتل أمير الروم منويل وفرت الروم وانهزموا هزيمة قبيحة ، فقتل المسلمون منهم خلقا كثيرا ، وسقط الفرنج في واد من الماء عميق فغرق أكثرهم ، وركب الباقون في المراكب ، فبعث الأمير أحمد صاحب صقلية في آثارهم مراكب أخر ، فقتلوا أكثر المشركين في البحر أيضا ، وغنم المسلمون في هذه الغزوة شيئا كثيرا ، من الأموال والحيوانات والأمتعة والأسلحة ، فكان في جملة ذلك سيف مكتوب عليه : هذا سيف هندي زنته مائة وسبعون مثقالا ، طالما قوتل به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث في جملة تحف إلى المعز الفاطمي إلى إفريقية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قصدت القرامطة مدينة طبرية ليأخذوها من يد الإخشيد صاحب مصر والشام ، وطلبوا من سيف الدولة أن يمدهم بحديد يتخذون منه سلاحا ، فقلع لهم أبواب الرقة - وكانت من حديد - حتى أخذ أواقي الباعة ، وأرسل [ ص: 267 ] بذلك كله إليهم حتى قالوا : اكتفينا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها طلب معز الدولة من الخليفة المطيع لله أن يأذن له في دخول دار الخلافة ليتفرج فيها ، فأذن له فدخلها ، فبعث خادمه وحاجبه معه ، فطافوا معه فيها ، وهو مسرع خائف ، ثم خرج وقد خاف من غائلة ذلك ، وخشي أن يقتل في بعض الدهاليز ، فتصدق بعشرة آلاف لما خرج شكرا لله على سلامته ، وازداد حبا في الخليفة المطيع لله من يومئذ ، فكان في جملة ما رأى من العجائب بها صنم من نحاس على صورة امرأة حسناء جدا ، وحولها أصنام صغار في هيئة الخدم لها ، كان قد أتي به في زمن المقتدر ، فأقيم هناك ليتفرج عليه الجواري والنساء ، فهم المعز أن يطلبه من الخليفة ، ثم ارتأى فترك ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذي الحجة منها خرج رجل بالكوفة ، فادعى أنه علوي ، وكان يتبرقع فسمي المبرقع ، وغلظت قضيته وبعد صيته ، وذلك في غيبة معز الدولة عن بغداد واشتغاله بأمر الموصل وناصر الدولة بن حمدان ، فلما توطدت الأمور وعاد إلى بغداد اختفى المبرقع ، وذهب في البلاد ، فلم يفتح له أمر بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية