الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون عطف على قوله وقالوا اتخذ الله ولدا المعطوف على قوله وقالت اليهود ليست النصارى لمناسبة اشتراك المشركين واليهود والنصارى في الأقوال والعقائد الضالة إلا أنه قدم قول أهل الكتاب في الآية الماضية وهي ( وقالت اليهود ) لأنهم الذين ابتدءوا بذلك أيام مجادلتهم في تفاضل أديانهم ويومئذ لم يكن للمشركين ما يوجب الاشتغال بذلك إلى أن جاء الإسلام فقالوا مثل قول أهل الكتاب . وجمع الكل في وقالوا اتخذ الله ولدا إلا أنه لم يكن فريق من الثلاثة فيه مقتبسا من الآخر بل جميعه ناشئ من الغلو في تقديس الموجودات الفاضلة ومنشؤه سوء الفهم في العقيدة سواء كانت مأخوذة من كتاب كما تقدم في منشأ قول [ ص: 689 ] أهل الكتابين اتخذ الله ولدا أم مأخوذة من أقوال قادتهم كما قالت العرب : الملائكة بنات الله . وقدم قول المشركين هنا لأن هذا القول أعلق بالمشركين إذ هو جديد فيهم وفاش بينهم . فلما كانوا مخترعي هذا القول نسب إليهم ، ثم نظر بهم الذين من قبلهم وهم اليهود والنصارى . إذ قالوا مثل ذلك لرسلهم .

و لولا هنا حرف تحضيض قصد منه التعجيز والاعتذار عن عدم الإصغاء للرسول استكبارا بأن عدوا أنفسهم أحرياء بالرسالة وسماع كلام الله تعالى وهذا مبالغة في الجهالة لا يقولها أهل الكتاب الذين أثبتوا الرسالة والحاجة إلى الرسل .

وقوله أو تأتينا آية أرادوا مطلق آية فالتنكير للنوعية وحينئذ فهو مكابرة وجحود لما جاءهم من الآيات وحسبك بأعظمها وهو القرآن ، وهذا هو الظاهر من التنكير وقد سألوا آيات مقترحات وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الآيات وهم يحسبون أن الآيات هي عجائب الحوادث أو المخلوقات وما دروا أن الآية العلمية العقلية أوضح المعجزات لعمومها ودوامها وقد تحداهم الرسول بالقرآن فعجزوا عن معارضته وكفاهم بذلك آية لو كانوا أهل إنصاف .

وقوله كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم أي كمثل مقالتهم هذه قال الذين من قبلهم من الأمم مثل قولهم والمراد بالذين من قبلهم اليهود والنصارى فقد قال اليهود لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وسأل النصارى عيسى هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء وفي هذا الكلام تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله ولذلك أردفت هذه الآية بقوله إنا أرسلناك بالحق الآية . ثم يجوز أن تكون جملة كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم واقعة موقع الجواب لمقالة الذين لا يعلمون وهو جواب إجمالي اقتصر فيه على تنظير حالهم بحال من قبلهم فيكون ذلك التنظير كناية عن الإعراض عن جواب مقالهم وأنه لا يستأهل أن يجاب لأنهم ليسوا بمرتبة من يكلمهم الله وليست أفهامهم بأهل لإدراك ما في نزول القرآن من أعظم آية وتكون جملة " تشابهت قلوبهم " تقريرا أي تشابهت عقولهم في الأفن وسوء النظر . وتكون جملة قد بينا الآيات لقوم يوقنون تعليلا للإعراض عن جوابهم بأنهم غير أهل للجواب لأن أهل الجواب هم القوم الذين [ ص: 690 ] يوقنون وقد بينت لهم آيات القرآن بما اشتملت عليه من الدلائل ، وأما هؤلاء فليسوا أهلا للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم المكابرة .

ويجوز أن تكون جملة " كذلك قال " إلى آخرها معترضة بين جملة وقال الذين لا يعلمون وبين جملة قد بينا الآيات وتجعل جملة قد بينا الآيات هي الجواب عن مقالتهم والمعنى لقد أتتكم الآية وهي آيات القرآن ولكن لا يعقلها إلا الذين يوقنون أي دونكم فيكون على وزان قوله تعالى أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ووقع الإعراض عن جواب قولهم لولا يكلمنا الله لأنه بديهي البطلان ، كما قال تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا والقول في مرجع التشبيه والمماثلة من قوله كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم على نحو القول في الآية الماضية كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم وقوله تشابهت قلوبهم تقرير لمعنى " قال الذين من قبلهم مثل قولهم " ، أي كانت عقولهم متشابهة في الأفن وسوء النظر فلذا اتحدوا في المقالة . فالقلوب هنا بمعنى العقول كما هو المتعارف في اللغة العربية . وقوله " تشابهت " صيغة من صيغ التشبيه وهي أقوى فيه من حروفه وأقرب بالتشبيه البليغ ، ومن محاسن ما جاء في ذلك قول الصابئ :


تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب

وفي هذه الآية جعلت اليهود والنصارى مماثلين للمشركين في هذه المقالة لأن المشركين أعرق فيها إذ هم أشركوا مع الله غيره فليس ادعاؤهم ولدا لله بأكثر من ادعائهم شركة الأصنام مع الله في الإلهية فكان اليهود والنصارى ملحقين بهم لأن دعوى الابن لله طرأت عليهم ولم تكن من أصل ملتهم وبهذا الأسلوب تأتى الرجوع إلى بيان أحوال أهل الكتابين الخاصة بهم وذلك من رد العجز على الصدر . وجيء بالفعل المضارع في يوقنون لدلالته على التجدد والاستمرار كناية عن كون الإيمان خلقا لهم ، فأما الذين دأبهم الإعراض عن النظر والمكابرة بعد ظهور الحق فإن الإعراض يحول دون حصول اليقين ، والمكابرة تحول عن الانتفاع به فكأنه لم يحصل فأصحاب هذين الخلقين ليسوا من الموقنين .

[ ص: 691 ] وتبيين الآيات هو ما جاء من القرآن المعجز للبشر الذي تحدى به جميعهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله كما تقدم ، وفي الحديث ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة فالمعنى قد بينا الآيات لقوم من شأنهم أن يوقنوا ولا يشككوا أنفسهم أو يعرضوا حتى يحول ذلك بينهم وبين الإيقان ، أو يكون المعنى قد بينا الآيات لقوم يظهرون اليقين ويعترفون بالحق لا لقوم مثلكم من المكابرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية