الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 306 ] 2 ( الفصل الثاني )

                                                                                                                3 ( في كيفية الغسل )

                                                                                                                وصفة سائر الأغسال واحدة ، وهو مشتمل على فروض ، وسنن ، وفضائل .

                                                                                                                ففروضه خمسة :

                                                                                                                الأول : الماء الطهور ، وقد تقدم تحريره ، لكن كره مالك - رحمه الله - في الكتاب الاغتسال في الماء الدائم ، والقصرية ، والبئر القليلة الماء إذا وجد من ذلك بدا ، وفي مسلم قال عليه السلام : ( يغتسل أحدكم في الماء الدائم ، وهو جنب ) وهو يفسده إما لنجاسته على رأي الحنفية ، وإما لأن النفوس تعافه للطعام ، والشراب بعد ذلك ، وإن كان طهورا .

                                                                                                                وفي الكتاب : قال ابن القاسم : سألت مالكا عن البئر القليلة الماء يأتيها الجنب ، وليس معه ما يغرف به ، وفي يده قذره قال : يحتال حتى يغسل يده .

                                                                                                                قال صاحب الطراز : وجه الحيلة أن يرفع الماء بفيه ، ويغسل يديه به أعلى البئر مرارا إن أمكن الصعود ، أو يسكب على يده من فمه ، ويغسلها عند حائط البئر إن تعذر الصعود حتى لا يبقى في يده ما يظهر له أثر في إفساد الماء .

                                                                                                                الفرض الثاني : النية ، وقد تقدمت مباحثها في الوضوء ، فلنكتف بما هناك ، ونذكر ما يختص بهذا الباب ، وهو قوله في الكتاب : إذااغتسل للجمعة ، أو للتبرد ، ولم ينو الجنابة لا يجزئه ؛ لقوله عليه السلام : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ) .

                                                                                                                قال صاحب الطراز : روى أشهب ، وابن نافع ، وابن كنانة عن مالك - رحمه الله تعالى - الإجزاء ، وأفتوا به قياسا على من توضأ لنافلة ، فإنه يجزئ للفريضة .

                                                                                                                ولأن غسل الجمعة إنما شرع لصلاة الجمعة إذ لا يؤمر به من لا يصليها ، فالغسل لها يتضمن رفع ما يمنع منها كالوضوء للنافلة .

                                                                                                                [ ص: 307 ] والفرق للمشهور أن النافلة تتضمن رفع الحدث لتحريم فعلها بالحدث ، فإذا نواها ، فقد نوى لازمها على وجه الالتزام بخلاف غسل الجمعة ، فليس من شرطه رفع الحدث ، ويمكن أن يقال : إنه لا يصح إلا بعد رفع الحدث فيتضمن القياس السابق بل يؤكد ذلك ، ونقول : كل سببين بينهما تلازم شرعي ، فإن القصد إلى أحدهما قصد للآخر كالصلاة مع رفع الحدث ، والعبادة مع أجزائها .

                                                                                                                فإن اغتسل لجنابة ناسيا لجمعته . قال صاحب الطراز : قال ابن حبيب : لا يختلف أصحاب مالك في عدم الإجزاء خلافا ش ح ، وقال ابن عبد الحكم ، وأشهب ، وابن أبي سلمة : يجزئه . قال : وهذا لا يقتضي العكس ; لأن ابن عبد الحكم قال : لا تجزئ الجمعة عن الجنابة ، وقال ابن الماجشون : تجزئ الجمعة عن الجنابة ، ولا تجزئ الجنابة عن الجمعة .

                                                                                                                أما ابن عبد الحكم ، فرأى أن غسل الجمعة لا يتضمن رفع الحدث ، والجنابة تتضمن النظافة فيحصل المقصودان ، وأما عبد الملك ، فرأى أن غسل الجمعة لا يصح من الجنب ، وإنما شرع في حق الطاهر ، فالقصد إليها قصد للازمها كما تقدم .

                                                                                                                فرق : يجزئ غسل الجنابة عن الوضوء من غير أن ينويه ، ولا يجزئه عن غسل الجمعة حتى ينويه مع أنه سنة ، وأخفض رتبة ، وإذا أجزأ عن الأعلى ، فأولى أن يجزئ عن الأدنى ، والفرق من وجهين :

                                                                                                                أحدهما : أن الوضوء بعض أجزاء الجنابة ، والأقل تابع للأكثر ، وغسل الجمعة في كل أعضاء الجنابة .

                                                                                                                وثانيهما : أن الوضوء واجب من الجنس ، فضم الشيء إلى جنسه أقرب من ضمه إلى غير جنسه .

                                                                                                                ولو اغتسل لجمعته ، وجنابته ، ونواهما معا ، فالإجزاء في الكتاب ; لأن المقصود [ ص: 308 ] من الجنابة رفع الحدث ، ومن غسل الجمعة النظافة ، ولا منافاة بين المقصودين .

                                                                                                                وقال الشيخ أبو القاسم بنفي الإجزاء لأنه مأمور بغسل جملة جسده للجنابة ، فلم يفعل ذلك بل جعل الجمعة مشتركة ، فلا يكون آتيا بما أمر به في واحد منهما ، فلا يجزئه عن واحد منهما .

                                                                                                                قال ابن الجلاب : ويحتمل أن يجزئه عن جمعته دون جنابته لضعف الغسل بالتشريك ، وهو أضعف الغسلين ، وتوهم - رحمه الله - أنها مخرجة على من مشى في حجة واحدة لنذره ، وفرضه ، فإن فيها اختلافا ، وقال مالك : أحقهما بالقضاء أوجبهما عند الله تعالى ، وليس كما توهمه بل المسألة مذكورة في المدونة كما ترى .

                                                                                                                وقال في الكتاب : إذا حاضت أخرت غسلها حتى تطهر . قال ابن يونس : ينبغي إذا طهرت من الحيض ، ولم تغتسل أن يكون حكمها حكم الجنب في القراءة ، والوضوء قبل النوم لتمكنها من الغسل حينئذ قال ابن حبيب : يجزئها غسل واحد لهما ، وقال ابن القاسم في المجموعة : إن نسيت الجنابة أجزأها ; لأن الحيض أشدهما منعا ، وقال سحنون : إن نسيت الحيض لم يجزئها لاختصاص الحيض بالمنع من الوطء ، ولأنه الناسخ لحكم الجنابة ، والحكم للناسخ لبطلان المنسوخ ، وقال ابن عبد الحكم : يجزئها قياسا على أسباب الأحداث في الطهارة الصغرى . قال ابن يونس : وهذا هو الصواب ، وهو موافق لقول ابن القاسم في المدونة في الشجة إذا كانت موضع الوضوء إن غسلها بنية الوضوء يجزئ عن الجنابة ، وقال اللخمي : تجزئ نية الوضوء عن الغسل ، ويبني على المغسول ، ونية الغسل عن الوضوء ; لأن كليهما فرض طهارة .

                                                                                                                الفرض الثالث : تعميم الجسد بالغسل لقوله تعالى : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) وقوله تعالى : ( حتى تغتسلوا ) واللفظ ظاهر في الاستغراق .

                                                                                                                [ ص: 309 ] الفرض الرابع : التدليك قال في الكتاب : في الجنب ، والمتوضئ يأتي النهر ينغمس فيه ناويا الطهر لا يجزئه إلا أن يتدلك خلافا ش ح .

                                                                                                                قال في الرسالة : وما شك فيه عاوده بالماء ، والدلك ، ويتابع عمق سرته ، وتحت حلقه ، وحاجبيه ، وباطن ركبتيه ، ورفغيه . قال ابن عبد الحكم ، وأبو الفرج : إذا والى الصب بالماء ، أو أطال المكث تحت الماء حتى علم وصوله للبشرة أجزأه ، فرأى أن الدلك لا يجب لنفسه ، وإنما يجب للإيصال .

                                                                                                                ومنشأ الخلاف هل حقيقة الغسل لغة الإيصال مع الدلك فيجب ، وهو الصحيح ، ولذلك تفرق العرب بين الغسل ، والغمس لأجل التدليك ، فتقول غمست اللقمة في المرق ، ولا تقول غسلتها ، أو نقول حقيقته الإيصال فقط لقول العرب غسلت السماء الأرض إذا أمطرتها ، واعتبر أصحابنا التدليك في الوضوء ، والغسل ، ومسح الرأس ، والتيمم ، والخفين لأنها طهارات ، فتسوى في ذلك .

                                                                                                                وقال بعض الشافعية : لو ألقت الريح التراب على وجهه ويديه ، أو تلقى المطر برأسه أجزأه .

                                                                                                                حجتنا : أن المحدث ممنوع من العبادات وفاقا ، والأصل بقاؤه على ذلك في صورة النزاع ، وأما ما في مسلم من قوله عليه السلام لأم سلمة : ( إنما يكفيك أن تحثي الماء على رأسك ثلاث حثيات ، ثم تفيضي الماء عليك ، فتطهرين ) ، وفي أبي داود ، والترمذي عنه عليه الصلاة والسلام : ( الصعيد الطيب وضوء المسلم ، ولو لم يجد الماء عشر سنين ) فهي مطلقة في كيفية الاستعمال ، فتحمل على ما ذكرناه جمعا بين الأدلة ، ولأنه مجمع عليه فيكون أرجح مما ذكره الخصم .

                                                                                                                فرع : إن عجز عن تدليك بعض جسده . قال صاحب الطراز : قال سحنون : يعد له خرقة ، وقال ابن القصار : يسقط كما يسقط فرض القراءة عن [ ص: 310 ] الأخرس ، ولأنه لم ينقل عن أحد من السلف اتخاذ خرقة ، ونحوها ، فلو كان واجبا لشاع من فعلهم ، وفرق أيضا بين القليل ، والكثير .

                                                                                                                الفرض الخامس : الفور . قاله ابن يونس ، ودليله ما تقدم في الوضوء .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية