الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          التفسير

                          بسم الله الرحمن الرحيم براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين [ ص: 134 ] من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه أن الله تعالى بعث محمدا رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين ، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ، ذكرنا كلياتها في تفسير الآية [ 2 : 23 ص159 - 191 ج 1 ط الهيئة ] وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة ، ومنع الإكراه فيه ، والحمل عليه بالقوة كما بيناه في تفسير الآية [ 2 : 256 ص30 - 34 ج 3 ط الهيئة ] ، فقاومه المشركون وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه ، وصدوه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تبليغه للناس بالقوة ، ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب ، إلا بتأمين حلف أو قريب . فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة ، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علنا في دار الندوة ، ورجحوا في آخر الأمر قتله ، فأمره الله تعالى بالهجرة ، كما تقدم في تفسير وإذ يمكر بك الذين كفروا ( 8 : 30 ) [ ص40 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ] فهاجر ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجرهم بالمدينة المنورة أنصارا لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم ، ويؤثرونهم على أنفسهم ، وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع ، ومقتضى العرف العام في ذلك العصر ، وعاهد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون فخانوا وغدروا ، ونقضوا عهودهم له ما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه ، كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة الأنفال من هذا الجزء .

                          وقد عاهد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل عن قوة وعزة ، لا عن ضعف وذلة ، ولكن حبا للسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة ، ودخلت خزاعة في عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما دخلت بنو بكر في عهد قريش ، ثم عدا هؤلاء على أولئك ، وأعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم ، فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة معهم ، وفتحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمكة ، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله ، ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا ، وثبت بالتجربة لهم في حالي قوتهم وضعفهم ، أنهم لا عهود لهم ولا يؤمن نقضهم وانتقاضهم ، كما يأتي قريبا في قوله تعالى من هذه السورة : كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ( 7 ) إلى قوله في آخر آية فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ( 12 ) أي لا عهود لهم يرعونها ويفون بها . والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه ، مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يدان به [ ص: 135 ] فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه ، كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق ، من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب ! .

                          هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة ، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام منهم عليها ، وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة ، وجعلها خالصة للمسلمين ، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ( 2 : 190 ) وقوله : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ( 8 : 61 ) بقدر الإمكان ، وإن قال الجمهور بنسخ هذا بآية السيف من هذه السورة ، ونبذ عهود الشرك ، وسيأتي تفصيله في تفسيرها .

                          قوله تعالى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين البراءة مصدر برئ ( كتعب ) من الدين إذا أسقط عنه ، ومن الذنب ونحوه إذا تركه وتنزه عنه ، أي : هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . كما تقول : هذا كتاب من فلان إلى فلان . قال الراغب : أصل البرء والبراء والتبري : التفصي مما يكره مجاورته ، أي أو ملابسته . أسند التبري إلى الله ورسوله ؛ لأنه تشريع جديد شرعه الله تعالى ، وأمر رسوله بتبليغه وتنفيذه ، وأسند معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين ، وإن كان الرسول هو الذي عقده ، فإنه إنما عقده بصفة كونه الإمام والقائد العام لهم ، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعملهم بموجبه ، كما يسند تعالى إلى الجماعة أكثر الأحكام العامة ، حتى ما كان الخطاب في أول آياته له ـ صلى الله عليه وسلم ـ كقوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ( 65 : 1 ) إلخ . فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات ، ولقوادهم من أهل الحل والعقد وأمراء السرايا الاجتهاد فيما لا نص فيه منها ، ومن أحكام الحرب والصلح وغيرها ، ولا ينسب ذلك في تفصيله إلى الله ورسوله ، إذ لا يمكن إحاطة النصوص بفروعه ، وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القواد إذا نزلوا حصنا فطلب أهله منهم النزول على حكم الله ورسوله ألا ينزلوهم على حكمهما وذمتهما ، وأمر بأن ينزلوهم على حكمهم وذمتهم ، كما رواه مسلم من حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ .

                          والمعاهدة عقد العهد بين الفريقين على شروط يلتزمونها ، وكان اللذان يتوليانها منهما يضع أحدهم يمينه في يمين الآخر ، وكانوا يؤكدونها ويوثقونها بالأيمان ، ولذلك سميت أيمانا ، كما قال تعالى في المشركين : إنهم لا أيمان لهم ( 9 : 12 ) .

                          قال ناصر السنة البغوي في تفسير الآية : لما خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم ، وذلك قوله عز وجل : [ ص: 136 ] وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ( 8 : 58 ) يعني أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما عمل في نبذ عهودهم بآية الأنفال التي تقدمت ، وليس تشريعا جديدا لنبذ عهود المشركين مطلقا .

                          وقال الحافظ ابن كثير في تفسيرها : اختلف المفسرون هاهنا اختلافا كثيرا ، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة ، أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان ، لقوله تعالى : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ( 9 : 4 ) ولما سيأتي في الحديث " ومن كان بينه وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهد فعهده إلى مدته " وهذا أحسن الأقوال وأقواها ، وقد اختاره ابن جرير رحمه الله ، وروي عن الكلبي ، ومحمد بن كعب القرظي وغير واحد . اهـ .

                          فسيحوا في الأرض أربعة أشهر خطاب للمؤمنين مرتب على البراءة ، مبين لما يجب أن يقولوه للمشركين الذين برئ الله ورسوله من عهودهم ، ويجوز أن يكون خطابا للمشركين أنفسهم بطريق الالتفات ، والسياحة في الأرض الانتقال والتجوال الواسع فيها ، ورجل سائح وسياح ، وهو مجاز من ساح الماء سيحا ، وسيح الناس نهرا . والمراد من الأمر بالسياحة حرية السير والانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر لا يعرض المسلمون لهم فيها بقتال ، فلهم فيها سعة من الوقت للنظر في أمرهم ، والتفكر في عاقبتهم ، والتخيير بين الإسلام ، وبين الاستعداد للمقاومة والصدام إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم ، وهذا من غرائب رحمة هذا الدين ، وإعذاره إلى أعدى أعدائه المحاربين ، ولولاه لأمكن أن يقال : إنه أخذهم على غرة ، ودانهم بما كانوا يدينونه عند القدرة ، فإن كان هذا من العدل ، فأين ما امتاز به من الفضل ؟ .

                          وهذه الأربعة الأشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة من سنة تسع ، وهو عيد النحر الذي بلغوا فيه هذه الدعوة كما يأتي ، وتنتهي في عاشر ربيع الآخر من سنة عشر . وقال الزهري : إنها الأشهر الحرم " ؛ لأن البراءة نزلت في أول شوال سنة تسع ، وتنتهي بانتهاء المحرم أول السنة العاشرة . وهو غلط يقتضي أن تكون مدة الأربعة الأشهر بعد التبليغ شهرين لما سيأتي من كون تبليغهم البراءة كان يوم النحر في منى ، ولا يعقل أن يحاسبوا بالمدة قبل العلم بها .

                          واعلموا أنكم غير معجزي الله أي : وكونوا على علم قطعي بأنكم لا تعجزون الله تعالى بسياحتكم في الأرض ، ولا تجدون لكم مهربا من رسوله وعباده المؤمنين إذا أصررتم على شرككم وعدوانكم لله ولرسوله ، بل هو يسلطهم عليكم ، ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم ، كما نصرهم في كل قتال لكم معهم بدءا أو انتهاء والعاقبة للمتقين .

                          [ ص: 137 ] وأن الله مخزي الكافرين أي : واعلموا كذلك أن الله تعالى هو المخزي لجميع الكافرين منكم ومن غيركم في معاداتهم وقتالهم لرسله وعباده المؤمنين ، يخزيهم في الدنيا بذل الخيبة والفضيحة ، ثم يخزيهم في الآخرة أيضا ، فتلك سنته تعالى فيهم كما قال في مشركي مكة ، ومن اقتدى بهم : كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ( 39 : 25 و26 ) وقال في عاد قوم هود : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون والظاهر أن المراد بالخزي هنا ما يكون لهم في الدنيا للتصريح بعذاب الآخرة في آخر قوله :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية