الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 131 ] سورة التوبة أو " براءة "

                          ( هي السورة التاسعة ، وآياتها 129 عند الكوفيين و130 عند الجمهور )

                          هي مدنية بالاتفاق . قيل إلا قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ( 113 ) الآية . لما روي في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهي عن استغفاره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمه أبي طالب كما سيأتي تفصيله في تفسيرها . ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك ، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين : مرة منفردة ، ومرة في أثناء السورة .

                          واستثنى ابن الفرس قوله تعالى : لقد جاءكم رسول إلى آخر الآيتين ( 128 ، 129 ) في آخرها فزعم أنهما مكيتان ، ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن ، وقول الكثيرين : إنها نزلت تامة . وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات ، يجاب عنه بأن أكثر ما روي في أسباب النزول كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا . أعني أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام الاستدلال ، وهذا لا يدل على نزولها وحدها ، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه ، كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة ، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة .

                          ولم يكتب الصحابة ، ولا من بعدهم البسملة في أولها ؛ لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور . هذا هو المعتمد المختار في تعليله ، وقيل : رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة ، والمشهور أنه لنزولها بالسيف ونبذ العهود ، وقيل غير ذلك مما في جعله سببا وعلة نظر ، وقد يقال : إنه حكمة لا علة . ومما قاله بعض العلماء في هذه الحكمة : إنها تدل على أن البسملة آية من كل سورة ، أي : لأن الاستثناء بالفعل كالاستثناء بالقول معيار العموم .

                          وقد ورد لها أسماء كثيرة هي صفات لأهم ما اشتملت عليه ، فمنها : سورة الفاضحة لما فضحته من سرائر المنافقين ، وإنبائهم بما في قلوبهم من الكفر وسوء النيات . وهذا الاسم روي عن عمر وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومنها المنفرة ، والمعبرة ، والمبعثرة ، والمثيرة ، والبحوث كـ ( صبور ) لتنفيرها وتعبيرها عما في القلوب وبحث ذلك وإثارته وبعثرته ، وكذا المدمدمة ، والمخزية ، والمنكلة ، والمشردة ، ومعاني هذه الألقاب ظاهرة في معنى فضيحتها للمنافقين ، وما يترتب عليها من الدمدمة عليهم والخزي والنكال والتشريد بهم [ ص: 132 ] ومنها المقشقشة . قال الزمخشري : وهي تقشقش من النفاق ، أي تبرئ منه . وأشهرها الثابت التوبة وبراءة ، وسائر الأسماء ألقاب لبيان معانيها . وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك وهي آخر غزواته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي حال الاستعداد لها في زمن العسرة والخروج إليها في القيظ ، وفي أثنائها ظهر من آيات نفاق المنافقين ما كان خفيا من قبل .

                          وقد صرحوا بأن أولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة ، فأرسل النبي صلوات الله وسلامه عليه عليا عليه السلام ، ليقرأها على المشركين في الموسم كما يذكر مفصلا في محله .

                          وفي صحيح البخاري وغيره عن البراء قال : آخر آية نزلت : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ( 4 : 176 ) وآخر سورة نزلت براءة . وهو رأي له لا رواية مرفوعة ، ويحمل قوله في الآية على أنها آخر ما نزل في الكلالة ، فهي بعد آيات المواريث ، وفي السورة على بعضها أو معظمها . وأرجح ما ورد في آخر آية نزلت أنه قوله تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ( 2 : 281 ) أو ما قبلها من آيات الربا من دونها ، والأرجح أن يقال معها . وتقدم تفصيل المسألة في آخر سورة البقرة [ ص88 ج 3 ط الهيئة ] وأما آخر سورة نزلت تامة فالأرجح أنها سورة النصر ، وقد عاش ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعدها أياما قليلة .

                          وأما التناسب بينها وبين ما قبلها ، فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض ، فهي كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيها من أصول الدين وفروعه ، والسنن الإلهية والتشريع - وجله في أحكام القتال ، وما يتعلق به من الاستعداد له ، وأسباب النصر فيه ، وغير ذلك من الأمور الروحية والمالية ، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي له ، وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض ، والكافرين بعضهم مع بعض ، كذا أحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب ، فما بدأ به في الأولى أتم في الثانية . ولولا أن أمر القرآن في سوره ومقاديرها موقوف على النص لكان هذا الذي ذكرناه مؤيدا من جهة المعاني لمن قال إنهما سورة واحدة ، كما يؤيده من ناحية ترتيب السور بحسب طولها وقصرها ، وتوالي السبع الطوال منها ، ويليها المئون والأنفال دونها .

                          مثال ذلك ( 1 ) أن العهود ذكرت في سورة الأنفال ، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها ، ولا سيما نبذها الذي قيد في الأولى بخوف خيانة الأعداء .

                          ( 2 ) تفصيل الكلام في قتال المشركين ، وأهل الكتاب في كل منهما .

                          ( 3 ) ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام ، وأنهم ليسوا بأوليائه : إن أولياؤه إلا المتقون ( 8 : 34 ) أي من المؤمنين ، وجاء في الثانية : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ( 9 : 17 ) إلى آخر الآيات .

                          [ ص: 133 ] ( 4 ) ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين ، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين ، ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين كما تقدم ، وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا .

                          ( 5 ) ذكر في الأولى الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله ، وجاء مثل هذا الترغيب بأبلغ من ذلك وأوسع في الثانية ، وذكرت في الأولى مصارف الغنائم من هذه الأموال ، وفي الثانية مصارف الصدقات .

                          ( 6 ) ورد ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض في الأولى في آية واحدة ، وفصل في الثانية أوسع تفصيل ، حتى كانت أجدر بأن تسمى سورة " المنافقون " من سورة " 63 " إذا جاءك المنافقون لو كانت تسمية السور بالرأي .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية