الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 114 ] النوع الثامن .

معرفة آخر ما نزل .

فيه اختلاف ، فروى الشيخان : عن البراء بن عازب ، قال : آخر آية نزلت : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ النساء : 176 ] . وآخر سورة نزلت براءة .

وأخرج البخاري ، عن ابن عباس ، قال : آخر آية نزلت آية الربا .

وروى البيهقي ، عن عمر مثله ، والمراد بها قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا [ البقرة : 278 ] .

وعند أحمد وابن ماجه ، عن عمر : من آخر ما نزل آية الربا .

وعند ابن مردويه : عن أبي سعيد الخدري ، قال : خطبنا عمر فقال : إن من آخر القرآن نزولا آية الربا .

وأخرج النسائي من طريق عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : آخر شيء نزل من القرآن : واتقوا يوما ترجعون فيه [ البقرة : 281 ] الآية .

وأخرج ابن مردويه نحوه ، من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس بلفظ : آخر آية نزلت .

[ ص: 115 ] وأخرجه ابن جرير من طريق العوفي والضحاك ، عن ابن عباس .

وقال : الفريابي في تفسيره : حدثنا سفيان ، عن الكلبي ، عن ابن صالح ، عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية ، وكان بين نزولها وبين موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد وثمانون يوما .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، قال : آخر ما نزل من القرآن كله : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ، وعاش النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية تسع ليال ، ثم مات ليلة الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول .

وأخرج ابن جرير مثله ، عن ابن جريج .

وأخرج من طريق عطية ، عن أبي سعيد قال : آخر آية واتقوا يوما ترجعون الآية .

وأخرج أبو عبيد في " الفضائل " ، عن ابن شهاب قال : آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين .

وأخرج ابن جرير من طريق ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين . مرسل صحيح الإسناد .

قلت : ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا : واتقوا يوما وآية الدين ; لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ، ولأنها في قصة واحدة فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر ، وذلك صحيح ، وقول البراء : آخر ما نزل : يستفتونك أي : في شأن الفرائض .

وقال ابن حجر في شرح البخاري : طريق الجمع بين القولين في آية الربا : واتقوا يوما أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا ، إذ هي معطوفة عليهن ويجمع بين [ ص: 116 ] ذلك وبين قول البراء بأن الآيتين نزلتا جميعا ، فيصدق أن كلا منهما آخر بالنسبة لما عداهما . ويحتمل أن تكون الآخرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث بخلاف آية البقرة . ويحتمل عكسه ، الأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول . انتهى .

وفي المستدرك ، عن أبي بن كعب قال : آخر آية نزلت : لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ التوبة : 128 - 129 ] إلى آخر السورة .

وروى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن مردويه ، عن أبي : أنهم جمعوا القرآن في خلافة أبي بكر ، وكان رجال يكتبون ، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة : ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون [ 127 ] . ظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن ، فقال لهم أبي بن كعب : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأني بعدها آيتين لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى قوله وهو رب العرش العظيم وقال : هذا آخر ما نزل من القرآن ، قال : فختم بما فتح به ، بالله الذي لا إله إلا هو ، وهو قوله وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ الأنبياء : 25 ] .

وأخرج ابن مردويه ، عن أبي أيضا ، قال : آخر القرآن عهدا بالله هاتان الآيتان لقد جاءكم رسول من أنفسكم وأخرجه ابن الأنباري بلفظ : أقرب القرآن بالسماء عهدا .

وأخرج أبو الشيخ في تفسيره من طريق علي بن زيد ، عن يوسف المكي ، عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت : لقد جاءكم رسول من أنفسكم .

[ ص: 117 ] وأخرج مسلم ، عن ابن عباس قال : آخر سورة نزلت : إذا جاء نصر الله والفتح .

وأخرج الترمذي والحاكم ، عن عائشة قالت : آخر سورة نزلت المائدة ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه . . الحديث .

وأخرجا أيضا ، عن عبد الله بن عمرو قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح .

قلت : يعني إذا جاء نصر الله .

وفي حديث عثمان المشهور : براءة من آخر القرآن نزولا .

قال البيهقي : يجمع بين هذه الاختلافات - إن صحت - بأن كل واحد أجاب بما عنده .

وقال القاضي أبو بكر في " الانتصار " : هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل قاله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن ، ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل ، وغيره سمع منه بعد ذلك ، وإن لم يسمعه هو . ويحتمل أيضا أن تنزل هذه الآية - التي هي آخر آية تلاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع آيات نزلت معها ، فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك ، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب . انتهى .

ومن غريب ما ورد في ذلك : ما أخرجه ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذه الآية : فمن كان يرجوا لقاء ربه [ الكهف : 110 ] الآية ، وقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن .

قال ابن كثير : هذا أثر مشكل ، ولعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها ، بل هي مثبتة محكمة .

[ ص: 118 ] قلت : ومثله ما أخرجه البخاري وغيره ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم [ النساء : 93 ] هي آخر ما نزل ، وما نسخها شيء .

وعند أحمد والنسائي عنه : لقد نزلت في آخر ما نزل ، ما نسخها شيء .

وأخرج ابن مردويه ، من طريق مجاهد ، عن أم سلمة ، قالت : آخر آية نزلت هذه الآية فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل [ آل عمران : 195 ] إلى آخرها .

قلت : وذلك أنها قالت : يا رسول الله ، أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء ؟ فنزلت ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض [ النساء : 32 ] . ونزلت : إن المسلمين والمسلمات ونزلت هذه الآية فهي آخر الثلاثة نزولا ، أو آخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة .

وأخرج ابن جرير : عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، فارقها والله عنه راض .

قال أنس : وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا [ التوبة : 5 ] .

قلت : يعني في آخر سورة نزلت .

[ ص: 119 ] وفي البرهان لإمام الحرمين : إن قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما [ الأنعام : 145 ] . من آخر ما نزل .

وتعقبه ابن الحصار بأن السورة مكية باتفاق ، ولم يرد نقل بتأخير هذه الآية عن نزول السورة ، بل هي في محاجة المشركين ومخاصمتهم وهم بمكة . انتهى .

تنبيه : من المشكل على ما تقدم قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع ، وظاهرها إكمال الفرائض والأحكام قبلها ، وقد صرح بذلك جماعة منهم السدي ، فقال : لم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، مع أنه وارد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعد ذلك .

وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال : الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه ، حتى حجه المسلمون لا يخالطهم المشركون ، ثم أيده بما أخرجه من طريق ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا فلما نزلت براءة نفي المشركون عن البيت ، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين ; فكان ذلك من تمام النعمة . ( وأتممت عليكم نعمتي ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية