الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 34 ] قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون لما بهتوا بوجود الصواع في رحل أخيهم اعتراهم ما يعتري المبهوت فاعتذروا عن دعواهم تنزههم عن السرقة . إذ قالوا ( وما كنا سارقين ) . عذرا بأن أخاهم قد تسربت إليه خصلة السرقة من غير جانب أبيهم فزعموا أن أخاه الذي أشيع فقده كان سرق من قبل . وقد علم فتيان يوسف عليه السلام أن المتهم أخ من أم أخرى . فهذا اعتذار بتعريض بجانب أم أخويهم وهي زوجة أبيهم وهي راحيل ابنة لابان خال يعقوب عليه السلام .

وكان ليعقوب عليه السلام أربع زوجات : راحيل هذه أم يوسف عليه السلام وبنيامين ، و ليئة بنت لابان أخت راحيل وهي أم روبين ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، وبساكر ، وزبولون ، و بلهة جارية راحيل وهي أم دانا ، ونفتالي ، و زلفة جارية راحيل أيضا وهي أم جاد ، وأشير .

وإنما قالوا : ( قد سرق أخ له من قبل ) بهتانا ونفيا للمعرة عن أنفسهم . وليس ليوسف عليه السلام يومئذ سرقة قبل . ولم يكن إخوة يوسف عليه السلام أنبياء . وشتان بين السرقة وبين الكذب إذا لم تترتب عليه مضرة .

وكان هذا الكلام بمسمع من يوسف عليه السلام في مجلس حكمه .

وقوله ( فأسرها يوسف ) يجوز أن يعود الضمير البارز إلى جملة ( قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ) على تأويل ذلك القول بمعنى المقالة على نحو قوله تعالى ( إنها كلمة هو قائلها ) بعد قوله رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ، ويكون معنى ( أسرها في نفسه ) أنه تحملها ولم يظهر [ ص: 35 ] غضبا منها ، وأعرض عن زجرهم وعقابهم مع أنها طعن فيه وكذب . وإلى هذا التفسير ينحو أبو علي الفارسي وأبو حيان . ويكون قوله ( قال أنتم شر مكانا ) كلاما مستأنفا حكاية لما أجابهم به يوسف عليه السلام صراحة على طريقة حكاية المحاورة ، وهو كلام لا يقتضي تقرير ما نسبوه إلى أخي أخيهم ، أي أنتم أشد شرا في حالتكم هذه ; لأن سرقتكم مشاهدة وأما سرقة أخي أخيكم فمجرد دعوى ، وفعل ( قال ) يرجح هذا الوجه .

ويجوز أن يكون ضمير الغيبة في ( فأسرها ) إلى ما بعده وهو قوله ( قال أنتم شر مكانا ) ، وبهذا فسر الزجاج والزمخشري ، أي قال في نفسه ، وهو يشبه ضمير الشأن والقصة ، لكن تأنيثه بتأويل المقولة أو الكلمة ، وتكون جملة (قال أنتم شر مكانا ) تفسير للضمير في ( أسرها ) .

والإسرار ، على هذا الوجه ، مستعمل في حقيقته ، وهو إخفاء الكلام عن أن يسمعه سامع .

وجملة ( ولم يبدها لهم ) قيل هي توكيد لجملة ( فأسرها يوسف ) ، وشأن التوكيد أن لا يعطف . ووجه عطفها ما فيها من المغايرة للتي قبلها بزيادة قيد ( لهم ) المشعر بأنه أبدى لأخيه أنهم كاذبون . ويجوز أن يكون المراد لم يبد لهم غضبا ولا عقابا كما تقدم مبالغة في كظم غيظه ، فيكون في الكلام تقدير مضاف مناسب ، أي لم يبد أثرها .

و ( شر ) اسم تفضيل ، وأصله أشر ، و ( مكانا ) تمييز لنسبة الأشر .

وأطلق المكان على الحالة على وجه الاستعارة ، والحالة هي السرقة ، وإطلاق المكان والمكانة على الحالة شائع . وقد تقدم عند قوله تعالى قل يا قوم اعملوا على مكانتكم في آخر سورة الأنعام ، وهو تشبيه الاتصاف بوصف ما بالحلول في مكان . والمعنى أنهم لما عللوا سرقة أخيهم بأن أخاه من قبل قد سرق فإذا كانت سرقة سابقة من أخ أعدت أخاه الآخر للسرقة ، فهم وقد سبقهم أخوان [ ص: 36 ] بالسرقة أجدر بأن يكونوا سارقين من الذي سبقه أخ واحد . والكلام قابل للحمل على معنى أنتم شر حالة من أخيكم هذا والذي قبله لأنهما بريئان مما رميتموهما به وأنتم مجرمون عليهما إذ قذفتم أولهما في الجب ، وأيدتم تهمة ثانيهما بالسرقة .

ثم ذيله بجملة والله أعلم بما تصفون وهو كلام جامع ، أي الله أعلم بصدقكم فيما وصفتم أو بكذبكم . والمراد : أنه يعلم كذبهم ، فالمراد : أعلم بحال ما تصفون .

التالي السابق


الخدمات العلمية