الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون

وقال يا بني عطف على جملة قال الله على ما نقول وكيل .

وإعادة فعل " قال " للإشارة إلى اختلاف زمن القولين وإن كانا معا مسببين على إيتاء موثقهم ، لأنه اطمأن لرعايتهم ابنه وظهرت له المصلحة في سفرهم للامتيار ، فقوله يا بني لا تدخلوا من باب واحد صادر في وقت إزماعهم الرحيل . والمقصود من حكاية قوله هذا العبرة بقوله وما أغني عنكم من الله من شيء إلخ .

والأبواب : أبواب المدينة . وتقدم ذكر الباب آنفا . وكانت مدينة منفيس من أعظم مدن العالم فهي ذات أبواب . وإنما نهاهم أن يدخلوها من باب واحد خشية أن يسترعي عددهم أبصار أهل المدينة وحراسها وأزياؤهم أزياء الغرباء عن أهل المدينة أن يوجسوا منهم خيفة من تجسس أو سرقة فربما سجنوهم [ ص: 21 ] أو رصدوا الأعين إليهم ، فيكون ذلك ضرا لهم وحائلا دون سرعة وصولهم إلى يوسف عليه السلام ودون قضاء حاجتهم . وقد قيل في الحكمة : استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان .

ولما كان شأن إقامة الحراس والأرصاد أن تكون على أبواب المدينة اقتصر على تحذيرهم من الدخول من باب واحد دون أن يحذرهم من المشي في سكة واحدة من سكك المدينة ، ووثق بأنهم عارفون بسكك المدينة فلم يخش ضلالهم فيها ، وعلم أن بنيامين يكون في صحبة أحد إخوته لئلا يضل في المدينة .

والمتفرقة أراد بها المتعددة لأنه جعلها في مقابلة الواحد . ووجه العدول عن المتعددة إلى المتفرقة الإيماء إلى علة الأمر وهي إخفاء كونهم جماعة واحدة .

وجملة وما أغني عنكم من الله من شيء معترضة في آخر الكلام ، أي وما أغني عنكم بوصيتي هذه شيئا . و من الله متعلق بـ أغني ، أي لا يكون ما أمرتكم به مغنيا غناء مبتدئا من عند الله بل هو الأدب والوقوف عند ما أمر الله ، فإن صادف ما قدره فقد حصل فائدتان ، وإن خالف ما قدره حصلت فائدة امتثال أوامره واقتناع النفس بعدم التفريط .

وتقدم وجه تركيب وما أغني عنكم من الله من شيء عند قوله تعالى ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا في سورة العقود .

وأراد بهذا تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدبا مع واضع الأسباب ومقدر الألطاف في رعاية الحالين ، لأنا لا نستطيع أن نطلع على مراد الله في الأعمال فعلينا أن نتعرفها بعلاماتها ولا يكون ذلك إلا بالسعي لها .

وهذا سر مسألة القدر كما أشار إليه قول النبيء صلى الله عليه وسلم : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، وفي الأثر : " إذا أراد الله أمرا يسر أسبابه " .

[ ص: 22 ] قال الله تعالى ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ، ذلك أن شأن الأسباب أن تحصل عندها مسبباتها . وقد يتخلف ذلك بمعارضة أسباب أخرى مضادة لتلك الأسباب حاصلة في وقت واحد ، أو لكون السبب الواحد قد يكون سببا لأشياء متضادة باعتبارات فيخطئ تعاطي السبب في مصادفة المسبب المقصود ، ولولا نظام الأسباب ومراعاتها لصار المجتمع البشري هملا وهمجا .

والإغناء : هنا مشتق من الغناء - بفتح الغين وبالمد - وهو الإجزاء والاضطلاع وكفاية المهم . وأصله مرادف الغنى - بكسر الغين والقصر - وهما معا ضد الفقر ، وكثر استعمال الغناء المفتوح الممدود في الإجزاء والكفاية على سبيل المجاز المرسل ; لأن من أجزأ وكفى فقد أذهب عن نفسه الحاجة إلى المغنين وأذهب عمن أجزأ عنه الاحتياج أيضا . وشاع هذا الاستعمال المجازي حتى غلب على هذا الفعل ، فلذلك كثر في الكلام تخصيص الغناء - بالفتح والمد - بهذا المعنى ، وتخصيص الغنى - بالكسر والقصر - في معنى ضد الفقر ونحوه حتى صار الغناء الممدود لا يكاد يسمع في معنى ضد الفقر . وهي تفرقة حسنة من دقائق استعمالهم في تصاريف المترادفات . فما يوجد في كلام ابن بري من قوله : إن الغناء مصدر ناشئ عن فعل أغنى المهموز بحذف الزائد الموهم أنه لا فعل له مجرد فإنما عنى به أن استعمال فعل غني في هذا المعنى المجازي متروك ممات لا أنه ليس له فعل مجرد .

ولذلك فمعنى فعل أغنى بهذا الاستعمال معنى الأفعال القاصرة ، ولم يفده الهمز تعدية ، فلعل همزته دالة على الصيرورة ذا غنى ، فلذلك كان حقه أن لا ينصب المفعول به بل يكون في الغالب مرادفا لمفعول مطلق كقول عمرو بن معديكرب :


أغني غناء الذاهبـ ـين أعد للحدثان عدا

[ ص: 23 ] ويقولون : أغنى فلان عن فلان ، أي في أجزاه عوضه وقام مقامه ، ويأتون بمنصوب فهو تركيب غريب ، فإن حرف " عن " فيه للبدلية وهي المجاوزة المجازية . جعل الشيء البدل عن الشيء مجاوزا له لأنه حل محله في حال غيبته فكأنه جاوزه فسموا هذه المجاوزة بدلية وقالوا : إن عن تجيء للبدلية كما تجيء لها الباء . فمعنى وما أغني عنكم لا أجزي عنكم ، أي لا أكفي بدلا عن إجزائكم لأنفسكم .

و ( من شيء ) نائب مناب ( شيئا ) ، وزيدت ( من ) لتوكيد عموم شيء في سياق النفي ، فهو كقوله تعالى لا تغن عني شفاعتهم شيئا أي من الضر . وجوز صاحب الكشاف في مثله أن يكون ( شيئا ) مفعولا مطلقا ، أي شيئا من الغناء وهو الظاهر ، فقال في قوله تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ، قال : أي قليلا من الجزاء ، كقوله تعالى ولا يظلمون شيئا ; لكنه جوز أن يكون ( شيئا ) مفعولا به وهو لا يستقيم إلا على معنى التوسع بالحذف والإيصال ، أي بنزع الخافض .

وجملة إن الحكم إلا لله في موضع التعليل لمضمون وما أغني عنكم من الله من شيء ، والحكم : هنا بمعنى التصرف والتقدير ، ومعنى الحصر أنه لا يتم إلا ما أراده الله ، كما قال تعالى إن الله بالغ أمره ، وليس للعبد أن ينازع مراد الله في نفس الأمر ولكن واجبه أن يتطلب الأمور من أسبابها ; لأن الله أمر بذلك ، وقد جمع هذين المعنيين قوله وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء .

وجملة عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون في موضع البيان لجملة وما أغني عنكم من الله من شيء ليبين لهم أن وصيته بأخذ الأسباب مع التنبيه على الاعتماد على الله هو معنى التوكل الذي يضل في فهمه كثير من الناس اقتصارا وإنكارا . ولذلك أتى بجملة وعليه فليتوكل المتوكلون أمرا لهم [ ص: 24 ] ولغيرهم على معنى أنه واجب الحاضرين والغائبين ، وأن مقامه لا يختص بالصديقين بل هو واجب كل مؤمن كامل الإيمان لا يخلط إيمانه بأخطاء الجاهليات .

التالي السابق


الخدمات العلمية