الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون طوى القرآن أخرة أمر امرأة العزيز وحلول سني الخصب والادخار ثم اعتراء سني القحط لقلة جدوى ذلك كله في الغرض الذي نزلت السورة لأجله ، وهو إظهار ما يلقاه الأنبياء من ذويهم وكيف تكون لهم عاقبة النصر والحسنى ، ولأنه معلوم حصوله ، ولذلك انتقلت القصة إلى ما فيها من مصير إخوة يوسف عليه السلام في حاجة إلى نعمته ، ومن جمع الله بينه وبين أخيه الذي يحبه ، ثم بينه وبين أبويه ، ثم مظاهر عفوه عن إخوته وصلته رحمه ; لأن لذلك كله أثرا في معرفة فضائله .

وكان مجيء إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر للميرة عند حلول القحط بأرض مصر وما جاورها من بلاد فلسطين منازل آل يوسف عليه [ ص: 12 ] السلام ، وكان مجيئهم في السنة الثالثة من سني القحط . وإنما جاء إخوته عدا بنيامين لصغره ، وإنما رحلوا للميرة كلهم لعل ذلك ; لأن التزويد من الطعام كان بتقدير يراعى فيه عدد الممتارين ، وأيضا ليكونوا جماعة لا يطمع فيهم قطاع الطريق ، وكان الذين جاءوا عشرة . وقد عرف أنهم جاءوا ممتارين من تقدم قوله قال اجعلني على خزائن الأرض وقوله الآتي ألا ترون أني أوفي الكيل .

ودخولهم عليه يدل على أنه كان يراقب أمر بيع الطعام بحضوره ويأذن به في مجلسه خشية إضاعة الأقوات ; لأن بها حياة الأمة .

وعرف يوسف عليه السلام إخوته بعد مضي سنين على فراقهم لقوة فراسته وزكانة عقله دونهم .

وجملة وهم له منكرون عطف على جملة ( فعرفهم ) ، ووقع الإخبار عنهم بالجملة الاسمية للدلالة على أن عدم معرفتهم به أمر ثابت متمكن منهم ، وكان الإخبار عن معرفته إياهم بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد للدلالة على أن معرفته إياهم حصلت بحدثان رؤيته إياهم دون توسم وتأمل . وقرن مفعول ( منكرون ) الذي هو ضمير يوسف عليه السلام بلام التقوية ولم يقل وهم منكرون لزيادة تقوية جهلهم بمعرفته .

وتقديم المجرور بلام التقوية في ( له منكرون ) للرعاية على الفاصلة ، وللاهتمام بتعلق نكرتهم إياه للتنبيه على أن ذلك من صنع الله تعالى وإلا فإن شمائل يوسف عليه السلام ليست مما شأنه أن يجهل وينسى .

والجهاز بفتح الجيم وكسرها ما يحتاج إليه المسافر ، وأوله ما سافر لأجله من الأحمال . والتجهيز : إعطاء الجهاز .

وقوله ائتوني بأخ لكم يقتضي وقوع حديث منهم عن أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا لكان إنباء يوسف عليه السلام لهم بهذا يشعرهم [ ص: 13 ] أنه يكلمهم عارف بهم وهو لا يريد أن يكشف ذلك لهم . وفي التوراة أن يوسف عليه السلام احتال لذلك بأن أوهمهم أنه اتهمهم أن يكونوا جواسيس للعدو أو أنهم تبرءوا من ذلك فعرفوه بمكانهم من قومهم وبأبيهم وعدد عائلتهم ، فلما ذكروا ذلك له أظهر أنه يأخذ أحدهم رهينة عنده إلى أن يرجعوا ويأتوا بأخيهم الأصغر ليصدقوا قولهم فيما أخبروه ، ولذلك قال فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي .

و ( من أبيكم ) حال من ( أخ لكم ) أي أخوته من جهة أبيكم ، وهذا من مفهوم الاقتصار الدال على عدم إرادة غيره ، أي من أبيكم وليس من أمكم ، أي ليس بشقيق .

والعدول عن أن يقال : ائتوني بأخيكم من أبيكم ; لأن المراد حكاية ما اشتمل عليه كلام يوسف عليه السلام من إظهار عدم معرفته بأخيهم إلا من ذكرهم إياه عنده . فعدل عن الإضافة المقتضية المعرفة إلى التنكير تنابها في التظاهر بجهله به .

ولا تقربون أي لا تعودوا إلى مصر ، وقد علم أنهم لا يتركون أخاهم رهينة .

وقوله ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ترغيب لهم في العودة إليه ، وقد علم أنهم مضطرون إلى العود إليه لعدم كفاية الميرة التي امتاروها لعائلة ذات عدد من الناس مثلهم ، كما دل عليه قولهم بعد ذلك كيل يسير .

ودل قوله خير المنزلين على أنه كان ينزل الممتارين في ضيافته لكثرة الوافدين على مصر للميرة . والمنزل : المضيف . وهذه الجملة كناية عن الوعد بأن يوفي لهم الكيل ويكرم ضيافتهم إن أتوا بأخيهم . والكيل في الموضعين مراد من المصدر . فمعنى فلا كيل لكم عندي أي لا يكال لكم ، كناية عن منعهم من ابتياع الطعام .

التالي السابق


الخدمات العلمية