الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 192 ] وإذا أراد أن يحرم يستحب له أن يقلم أظفاره ، ويقص شاربه ، ويحلق عانته ، ثم يتوضأ أو يغتسل وهو أفضل ، ويلبس إزارا ورداء جديدين أبيضين وهو أفضل ، ولو لبس ثوبا واحدا يستر عورته جاز ، ويتطيب إن وجد ، ويصلي ركعتين ويقول : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ، وإن نوى بقلبه أجزأه ، ثم يلبي عقيب صلاته . والتلبية : لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك . فإذا نوى ولبى فقد أحرم ، فليتق الرفث والفسوق والجدال ، ولا يلبس قميصا ولا سراويل ، ولا عمامة ، ولا قلنسوة ، ولا قباء ، ولا خفين ، ولا يحلق شيئا من شعر رأسه وجسده ولا يلبس ثوبا معصفرا ونحوه ، ولا يغطي رأسه ولا وجهه ، ولا يتطيب ، ولا يغسل رأسه ولا لحيته بالخطمي ، ولا يدهن ، ولا يقتل صيد البر ، ولا يشير إليه ، ولا يدل عليه ، ويجوز له قتل البراغيث والبق والذباب والحية والعقرب والفأرة والذئب والغراب والحدأة وسائر السباع إذا صالت عليه ، ولا يكسر بيض الصيد ، ولا يقطع شجر الحرم ، ويجوز له صيد السمك ويجوز له ذبح الإبل والبقر والغنم والدجاج والبط الأهلي ، ويجوز له أن يغتسل ويدخل الحمام ، ويستظل بالبيت والمحمل ، ويشد في وسطه الهميان ، ويقاتل عدوه ، ويكثر من التلبية عقيب الصلوات ، وكلما علا شرفا أو هبط واديا أو لقي ركبا وبالأسحار .

التالي السابق


فصل

( وإذا أراد أن يحرم يستحب له أن يقلم أظفاره ، ويقص شاربه ، ويحلق عانته ) وهو المتوارث ، ولأنه أنظف للبدن فكان أحسن .

[ ص: 193 ] ( ثم يتوضأ أو يغتسل وهو أفضل ) لأنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل ، ولأن المراد منه التنظيف ، والغسل أبلغ ، ولو اكتفى بالوضوء جاز كما في الجمعة ، وتغتسل الحائض أيضا لما ذكرنا أنه للتنظيف .

( ويلبس إزارا ورداء جديدين أبيضين وهو أفضل ) لأنه لا بد من ستر العورة ودفع الحر والبرد ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - اتزر وارتدى عند إحرامه ، الجديدان أقرب إلى النظافة . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " خير ثيابكم البيض " .

( ولو لبس ثوبا واحدا يستر عورته جاز ) لحصول المقصود .

( ويتطيب إن وجد ) قالت عائشة : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم . وقال محمد : لا يتطيب بما يبقى بعد الإحرام لأنه كالمستعمل له بعد الإحرام . وجوابه ما روي عن عائشة أنها قالت : فكأني أنظر إلى وبيص الطيب من مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاثة من إحرامه ، والممنوع التطيب قصدا ، وهذا تابع لا حكم له ، وصار كما إذا حلق أو قلم أظفاره ثم أحرم . قال : ( ويصلي ركعتين ) لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بذي الحليفة عند إحرامه .

( ويقول : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ) لأنه أفعال متعددة مشقة يأتي بها في أماكن متباينة في أوقات مختلفة . فيسأل الله التيسير عليه .

( وإن نوى بقلبه أجزأه ) لحصول المقصود والأول أولى ، والأخرس يحرك لسانه ، ولو نوى مطلق الحج يقع عن الفرض ترجيحا لجانبه وهو الظاهر من حاله ؛ لأن العاقل لا يتحمل المشاق العظيمة وإخراج الأموال إلا لإسقاط الفرض إذا كان عليه ، وإن نوى التطوع وقع متطوعا إذ لا دلالة مع التصريح .

( ثم يلبي عقيب صلاته ) وإن شاء إذا استوت به راحلته والأول أفضل .

[ ص: 194 ] ( والتلبية : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) وكسر إن أصوب ليقع ابتداء ، ويرفع صوته بالتلبية . قال - عليه الصلاة والسلام - : " أفضل الحج العج والثج " فالعج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إسالة دم الذبائح ، ولا يخل بشيء من هذه الكلمات لأنها منقولة باتفاق الرواة ، وإن زاد جاز بأن يقول : لبيك وسعديك والخير كله في يديك لبيك إله الخلق ، غفار الذنوب إلى غير ذلك مما جاء عن الصحابة والتابعين وهي مرة شرط والزيادة سنة ، ويكون بتركها مسيئا .

قال : ( فإذا نوى ولبى فقد أحرم ) لأنه أتى بالنية والذكر كما في الصلاة فيدخل في الإحرام ( فليتق الرفث والفسوق والجدال ) لقوله تعالى : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) والمراد النهي عن هذه الأشياء نقلا وإجماعا ; فالرفث : الجماع ، وقيل : دواعيه ، وقيل : ذكر الجماع بحضرة النساء ، وقيل : الكلام القبيح ، والفسوق : المعاصي وهي حرام وفي الإحرام أشد ; والجدال : المخاصمة مع الرفيق والجمال وغيرهما .

قال : ( ولا يلبس قميصا ولا سراويل ولا عمامة ولا قلنسوة ولا قباء ولا خفين ) لأنه - عليه الصلاة والسلام - نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء ، فإن لم يجد إزارا فتق سراويله فاتزر به ، وإن لم يجد رداء شق قميصه فارتدى به ، وإن لم يجد نعلين يقطع الخفين أسفل الكعبين ؛ لأن هذه الأشياء تخرج عن لبس المخيط وهو الذي يقدر عليه والتكليف بحسب الطاقة . وقد قال - عليه الصلاة والسلام - في آخر الحديث : " إلا أن لا يجد النعلين فيقطع الخفين أسفل من الكعبين " وإن [ ص: 195 ] ألقى على كتفيه قباء جاز ، ما لم يدخل يديه في كميه لأنه حامل لا لابس .

قال : ( ولا يحلق شيئا من شعر رأسه وجسده ) لقوله تعالى : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) ولأن فيه إزالة الشعث ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : " الحاج الشعث التفل " الشعث : الانتشار ، ومراده انتشار شعر الحاج فلا يجمعه بالتسريح والدهن والتغطية ونحوه ، والتفل بالسكون : الرائحة الكريهة ، والتفل : الذي ترك استعمال الطيب فيكره رائحته ، والمحرم كذلك .

قال : ( ولا يلبس ثوبا معصفرا ونحوه ) لأنه طيب حتى لو كان غسيلا لا تفوح رائحته لا بأس ( ولا يغطي رأسه ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إحرام الرجل في رأسه " .

( ولا وجهه ) بطريق الأولى ، ولأنه لما حرم على المرأة تغطية الوجه وفي كشفه فتنة كان الرجل بطريق الأولى .

قال : ( ولا يتطيب ، ولا يغسل رأسه ولا لحيته بالخطمي ، ولا يدهن ) لأن في ذلك كله إزالة الشعث .

قال : ( ولا يقتل صيد البر ، ولا يشير إليه ، ولا يدل عليه ) لقوله تعالى : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) ولقوله تعالى : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) ولما روي : أن أبا قتادة صاد حمار وحش وهو حلال وأصحابه محرمون ، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكله ، فقال : " هل أشرتم ، هل دللتم ؟ " قالوا : لا ، قال : " إذا فكلوا " ولأن الإشارة والدلالة في معنى القتل لما فيه من إزالة [ ص: 196 ] الأمن عن الصيد فيتناوله النص كالردء والمعين في قتل بني آدم . قال : ولا القمل لأنه إزالة الشعث .

قال : ( ويجوز له قتل البراغيث والبق والذباب والحية والعقرب والفأرة والذئب والغراب والحدأة ، وسائر السباع إذا صالت عليه ) أما البراغيث والبق والذباب فلأنها ليست بصيد ولا متولدة منه ، فليس قتلها إزالة الشعث ، وتبتدئ بالأذى ، وكذلك النمل والقراد لما ذكرنا ، وأما الحية والعقرب والفأرة والذئب والغراب والحدأة لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم : الحدأة والحية والعقرب والفأرة والكلب العقور " وفي بعض الروايات زاد الغراب . وذكر في رواية الذئب ، قالوا : وهو المراد بالكلب العقور إذ هو في معناه ، والغراب هو الذي يأكل الجيف ، ولأن هذه الأشياء تبدأ بالأذى .

وأما السباع إذا صالت فلأنه لما أذن الشرع في قتل الخمس الفواسق لاحتمال الأذى ، فلأن يأذن في قتل ما تحقق منه الأذى كان أولى .

قال : ( ولا يكسر بيض الصيد ) لأنه أصل الصيد .

( ولا يقطع شجر الحرم ) للحديث ولأنه محظور على الحلال فالمحرم أولى .

( ويجوز له صيد السمك ) لقوله تعالى : ( أحل لكم صيد البحر ) الآية .

( ويجوز له ذبح الإبل والبقر والغنم والدجاج والبط الأهلي ) لأنها ليست بصيود لإمكان أخذها من غير معالجة لكونها غير متوحشة .

قال : ( ويجوز له أن يغتسل ويدخل الحمام ) لأنه يحتاج إلى الاغتسال للجنابة وغيرها ، وقد اغتسل عمر وهو محرم .

[ ص: 197 ] قال : ( ويستظل بالبيت والمحمل ) لأنه لا يصل إلى رأسه فلا يتغطى ، وقد ضرب لعثمان الفسطاط وهو محرم .

( ويشد في وسطه الهميان ) لأنه ليس بلبس وهو يحتاج إليه لحفظ النفقة .

( ويقاتل عدوه ) لما تقدم .

( ويكثر من التلبية عقيب الصلوات ، وكلما علا شرفا أو هبط واديا أو لقي ركبا أو بالأسحار ) هو المأثور عن الصحابة .




الخدمات العلمية