الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين

حق سمع أن يعدى إلى المسموع بنفسه ، فتعديته بالباء هنا إما لأنه ضمن معنى أخبرت ، كقول المثل : " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " أي تخبر عنه . وإما أن تكون الباء مزيدة للتوكيد مثل قوله - تعالى : وامسحوا برءوسكم .

[ ص: 262 ] وأطلق على كلامهن اسم المكر ، قيل : لأنهن أردن بذلك أن يبلغ قولهن إليها فيغريها بعرضها يوسف - عليه السلام - عليهن فيرين جماله لأنهن أحببن أن يرينه . وقيل : لأنهن قلنه خفية فأشبه المكر ، ويجوز أن يكون أطلق على قولهن اسم المكر لأنهن قلنه في صورة الإنكار وهن يضمرن حسدها على اقتناء مثله ، إذ يجوز أن يكون الشغف بالعبد في عادتهم غير منكر .

وأعتدت : أصله أعددت ، أبدلت الدال الأولى تاء ، كما تقدم عند قوله - تعالى : وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا في سورة النساء .

والمتكأ : محل الاتكاء . والاتكاء : جلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع انتصاب قليل في النصف الأعلى . وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة ، أي أحضرت لهن نمارق يتكئن عليها لتناول طعام . وكان أهل الترف يأكلون متكئين كما كانت عادة للرومان ، ولم تزل أسرة اتكائهم موجودة في ديار الآثار . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أما أنا فلا آكل متكئا .

ومعنى آتت أمرت خدمها بالإيتاء كقوله : يا هامان ابن لي صرحا

والسكين : آلة قطع اللحم وغيره . قيل : أحضرت لهن أترجا وموزا فحضرن واتكأن ، وقد حذف هذان الفعلان إيجازا . وأعطت كل واحدة سكينا لقشر الثمار .

وقولها اخرج عليهن يقتضي أنه كان في بيت آخر وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها . وعدي فعل الخروج بحرف على لأنه ضمن معنى " ادخل " لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه .

ومعنى أكبرنه أعظمنه ، أي أعظمن جماله وشمائله ، فالهمزة فيه للعد ، أي أعددنه كبيرا . وأطلق الكبر على عظيم الصفات تشبيها لوفرة الصفات بعظم الذات .

[ ص: 263 ] وتقطيع أيديهن كان من الذهول . أي أجرين السكاكين على أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الفواكه . وأريد بالقطع الجرح ، أطلق عليه القطع مجازا للمبالغة في شدته حتى كأنه قطع قطعة من لحم اليد .

و حاش لله تركيب عربي جرى مجرى المثل يراد منه إبطال شيء عن شيء وبراءته منه . وأصل " حاشا " فعل يدل على المباعدة عن شيء ، ثم يعامل معاملة الحرف فيجر به في الاستثناء فيقتصر عليه تارة . وقد يوصل به اسم الجلالة فيصير كاليمين على النفي يقال : حاشا الله ، أي أحاشيه عن أن يكذب ، كما يقال : لا أقسم . وقد تزاد فيه لام الجر فيقال : حاشا لله وحاش لله ، بحذف الألف ، أي حاشا لأجله ، أي لخوفه أن أكذب . حكي بهذا التركيب كلام قالته النسوة يدل على هذا المعنى في لغة القبط حكاية بالمعنى .

وقرأ أبو عمرو " حاشا لله " بإثبات ألف حاشا في الوصل . وقرأ البقية بحذفها فيه . واتفقوا على الحذف في حالة الوقف .

وقولهن ما هذا بشرا مبالغة في فوته محاسن البشر ، فمعناه التفضيل في محاسن البشر ، وهو ضد معنى التشابه في باب التشبيه .

ثم شبهنه بواحد من الملائكة بطريقة حصره في جنس الملائكة تشبيها بليغا مؤكدا . وكان القبط يعتقدون وجود موجودات علوية هي من جنس الأرواح العلوية ، ويعبرون عنها بالآلهة أو قضاة يوم الجزاء ، ويجعلون لها صورا ، ولعلهم كانوا يتوخون أن تكون ذواتا حسنة . ومنها ما هي مدافعة عن الميت يوم الجزاء . فأطلق في الآية اسم الملك على ما كانت حقيقته مماثلة لحقيقة مسمى الملك في اللغة العربية تقريبا لأفهام السامعين .

فهذا التشبيه من تشبيه المحسوس بالمتخيل ، كقول امرئ القيس :


ومسنونة زرق كأنياب أغوال



[ ص: 264 ] والفاء في فذلكن فاء الفصيحة ، أي إن كان هذا كما زعمتن ملكا فهو الذي بلغكن خبره فلمتنني فيه .

و لمتنني فيه " في " للتعليل ، مثل دخلت امرأة النار في هرة . وهنالك مضاف محذوف ، والتقدير : في شأنه أو في محبته .

والإشارة بـ ذلكن لتمييز يوسف - عليه السلام - ، إذ كن لم يرينه قبل . والتعبير عنه بالموصولية لعدم علم النسوة بشيء من معرفاته غير تلك الصلة ، وقد باحت لهن بأنها راودته لأنها رأت منهن الافتنان به فعلمت أنهن قد عذرنها . والظاهر أنهن كن خلائل لها فلم تكتم عنهن أمرها .

واستعصم : مبالغة في عصم نفسه ، فالسين والتاء للمبالغة ، مثل : استمسك واستجمع الرأي واستجاب . فالمعنى : أنه امتنع امتناع معصوم ، أي جاعلا المراودة خطيئة عصم نفسه منها .

ولم تزل مصممة على مراودته تصريحا بفرط حبها إياه ، واستشماخا بعظمتها ، وأن لا يعصي أمرها ، فأكدت حصول سجنه بنوني التوكيد ، وقد قالت ذلك بمسمع منه إرهابا له .

وحذف عائد صلة ما آمره وهو ضمير مجرور بالباء على نزع الخافض مثل : أمرتك الخير . . .

والسجن بفتح السين : قياس مصدر سجنه ، بمعنى الحبس في مكان محيط لا يخرج منه . ولم أره في كلامهم بفتح السين إلا في قراءة يعقوب هذه الآية . والسجن بكسر السين : اسم للبيت الذي يسجن فيه ، كأنهم سموه بصيغة المفعول كالذبح وأرادوا المسجون فيه . وقد تقدم قولها آنفا إلا أن يسجن أو عذاب أليم

والصاغر : الذليل . وتركيب من الصاغرين أقوى في معنى الوصف بالصغار من أن يقال : وليكونن صاغرا ، كما تقدم عند قوله - تعالى : [ ص: 265 ] قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين في سورة البقرة ، وقوله : وكونوا مع الصادقين في آخر سورة براءة .

وإعداد المتكأ لهن ، وبوحها بسرها لهن يدل على أنهن كن من خلائلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية