الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                المانع الثالث

                                                                                                                تهمة جر الشاهد النفع لنفسه في ضمن الشهادة . وفي الكتــاب : تمتنع شهادته لمكاتبه ; لأن الكتابة له ولامرأته بالعتق ; لأن ولده يبقى حرا بخلاف شريكه المفاوض في غير التجارة إذا لم يجر لنفسه ، قال ابن يونس : قال ابن القاسم : إن باع أحدهما سلعة بينهما من رجل ، ولم يقبضها المبتاع حتى باعها البائع من آخر وقبضها الثاني ، فلا تجوز شهادة الذي لم يتول البيع الأول بالشراء ، وإن كان الثاني قد اشتراها بفضل [ . . . ] الشاهد من الفضل شيئا ، قال ابن يونس : ينبغي إذا اشتراها بمثل الثمن الأول [ . . . ] قبول شهادته لعدم التهمة ، ووجه الأول : أنهما متفاوضان فكأنهما معا باعا من الثاني ، ولا يقبل قوله : إن شريكه باعها من الأول ، ويجب على المقر أن يعطي نصف الزائد عن الصفقة الأولى للأول .

                                                                                                                [ ص: 270 ] فـرع

                                                                                                                في الكتــاب : تجوز شهادة الوصيين أو الوارثين بدين على الميت ، ويحلف الطالب مع الوارث الواحد إن كان عدلا ويستحق ، فإن نكل أخذ من شاهده قدر ما يصيبه من الدين لاعترافه بذلك ، وإن كان سفيها امتنعت شهادته لسفهه ولم يرجع عليه لعدم نفوذ إقراره ، وتجوز شهادة الوصيين أن الميت أوصى إلى فلان معهما ; لأنه نفع لغيرهما ، وقال غيره : إن ادعى ذلك فلان ولم يجرا بذلك لنفسيهما نفعا ، وكذلك الوارثان فتجوز ، وتجوز شهادة الوارثين على نسب يلحقانه بالميت ، أو دين أو وصية ، أو أن فلانا وصي ، وإن شهدا أن أباهما أعتق هذا العبد ومعهما أخوات أو زوجة الأب : فإن لم يتهما في ولائه لذاته جازت شهادتهما ، وإن اتهمهما في جر ولائه ، امتنعت ، وتمتنع شهادة الوصي بدين للميت ; لأنه خليفة إلا أن يكون الورثة كبارا عدولا ، ولا يجر بشهادته شيئا يأخذه ، وتمتنع شهادة الوصي لورثة الميت بدين لهم على الناس ; لأنه الناظر لهم إلا أن يكونوا كبارا عدولا ، فإنه لا يتهم لهم ، في التنبيهات : قوله للسفيه : ترد شهادته ، ظاهره : اشتراط الرشد في العدالة ، وهو قول أشهب ، ولم يشترطه مالك في كتاب التفليس ، وقوله : إلا أن يكون الورثة كبارا عدولا يقتضي اشتراط العدالة في الرشد ، قاله بعض شيوخنا ، حتى قال : ومعناه عندي أن يكونوا مرضيين في أحوالهم ، لا عدالة الشهادة ، والقولان في المذهب في اشتراط الدين في الرشد ، وقال بعضهم : أراد بالعدالة الوجه الذي لا يختلف فيه أنه لا يحجر عليهم ، فتنتفي التهمة عن الوصي ، وإذا لم يكونوا عدولا فهم مختلف فيهم ، فيتهم الوصي لكون الورثة معرضين للإيصاء ، قال ابن يونس : يحلف مع الوارث العدل : إن حقه لحق ، وإنه ما قبض من الميت شيئا منه ، ولا أسقطه عنه . وقوله : يأخذ منه نصيبه ، يريد إذا أقر الشاهد أن الدين باق على [ ص: 271 ] الميت ، وأن يأخذ منه شيئا حتى يحلف : إنه ما قبض منه ولا أسقطه عنه ، وعن ابن القاسم : إذا احتضر فقال : ما شهد علي به أنه من دين أو شيء فهو مصدق إلى مائة دينار ، ولم يوقت وقتا ، ثم مات فشهد الولد لقوم ، فلا بد من اليمين إن كان الولد عدلا ، وإن لم يكن عدلا ، أو نكل المشهود له ، لزم الولد نصيبه من الدين ، وإن كان سفيها امتنع إقراره من ميراثه ، ولم يحلف الطالب ، قال ابن القاسم : لو شهد الولدان أن أباهما أعتق هذا العبد ، وشهد أجنبيان أنه أوصى بالثلث [ . . . ] ذان إنهما في ولايته ، امتنعت شهادتهما وإلا جازت ، وفي النوادر : قال مالك : إذا شهد ولي اليتيم له وهو يخاصم قبل الخصومة أو بعدها في مال يلي قبضه لا تقبل قبل ولا بعد ، ويقبل فيما لا يلي قبضه ; لأن القبض ولاية ، وقد يقترض ويتجر فيما قبض فيتهم في ذلك ، وإذا زالت الولاية قبلت إلا أن ترد أو لا ، قال مالك : وتجوز شهادة الوصي على اليتيم في زمن الآية كالوالد . وفي الجلاب : المنع لأنه يتهم في راحة من ضبط المال ، قال سحنون : إذا أتيا بكتاب مختوم للقاضي [ . . . ] على وصيته وهما الوصيان ، سألهما إن قالا : قبلنا الوصية ، ردت شهادتهما [ . . . ] .

                                                                                                                فـرع

                                                                                                                في الكتاب : شهد أن فلانا كفيل لفلان ، ولوالدهما بمال ، أو لهما ولفلان على فلان مائة بأنه لم يجر أحدهما لجر النفع بهما بخلاف شهادة بوصية أوصى له فيها بشيء تافه لا يتهم فيه فيجوز له ولغيره ، وعنه : لا يصح بعض الشهادة دون بعضها ، وعن مالك : إذا اتهم امتنعت له ولغيره ، وقال سحنون : في هذا الأصل [ ص: 272 ] اختلاف عن مالك ، وقال يحيى بن سعيد : إن شهد معه غيره جازت له ولغيره ، وإلا جازت لغيره دونه ، وعن مالك : لا تجوز له ولا لغيره مطلقا ، في التنبيهات : لا يختلف في رد شهادته لنفسه إذا أشهدهما بشيء له ولغيره ، وإن كان الذي شهد به لنفسه حقيرا إلا ما في الموازية أنها تجوز له ولغيره إذا كان الذي له يسيرا كالوصية ، وقيل : يجوز منها شهادته فقط تخريجا ، ويحتمل أن ما في الموازية وقول ابن القاسم في الوصية : إنه إن كان الشاهد فيها يبين أنه إن كان وحده حلف المشهود له وأخذ ما شهد له به لنفسه ; لأنه كخز واحد ، وهو فيه يحكم اتبع ، وقد حلف الآخر على تصحيح شهادته وأن معه غيره ، أخذ الآخر حقه بغير يمين لاجتماع شاهدين له ، وأخذ أيضا حقه بغير يمين ; لكونه تبعا لحق صاحبه ; لم يختلف شيوخنا أن هذا معنى قول ابن القاسم ، واختلف في تأويل قول ابن سعيد ، قيل : معناه : إن كان وحده جازت لغيره مع يمينه ، وامتنعت له ، وإن كان معه غيره جازت لغيره بغير يمين ، وله بغير يمين معاتبة بشاهدين ، وقيل : إن كان معه غيره لم يأخذ هو حقه إلا بيمين مع شهادة صاحبه ، وقاله مالك ، ففي المدونة : قولان لمالك وتأويلا قول ابن سعيد قولان آخران ، وإن كان ما شهد به لنفسه في الوصية كثيرا ردت شهادته في الجميع على المشهور للتهمة ، وقيل : يجوز لغيره دون نفسه ، وهو أحد الأقوال في الجلاب .

                                                                                                                قال بعض الأندلسيين : تجويزه هاهنا إن كان الذي له يسيرا مع المنع مطلقا إذا شهد أنه أوصى لابنه اختلاف ، إذ لا فرق في التهمة ، قال : وليس كذلك ; لأنه في القرابة إنما أجاب عن شهادة الأب لابنه ، ولم يعترض للوصية ، ولا فرق بين الوصية له أو إليه في تنفيذ يسير المال الذي لو أوصى له في جملة وصية لم يتهم فيه ، أو تنفيذ عتق وشبهه مما لا يتهم فيه ، أو هو لا يتشرف مثله بإسناد الوصية ، قاله في المستخرجة ، وفي النكت : تجوز شهادته في الوصية له فيها يسير ، [ ص: 273 ] بخلاف سائر الحقوق ; لأنه ضرورة يخشى من تأخرها معالجة الموت ، وقوله : إذا شهد وارثان أن فلانا تكفل لفلان ولوالدهما لا يجوز ، معناه : في حق واحد ، وأما في حقين تكفل لفلان بكذا ، ولوالدهما في شيء آخر بكذا ، فيجوز للأجنبي ، قال التونسي : إذا ردت الشهادة للتهمة لم يجز للغير بخلاف إذا ردت للسنة ، كشهادته بمال وعتق فيجوز ما قابل المال دون ما قابل العتق ; لأن الشاهد لم يتهم في صدقه بخلاف التهمة ، وقال أصبغ : إذا شهد كل واحد منهما لصاحبه : أن الميت أوصى له بكذا ، والكتاب واحد أو متعدد صحت الشهادة ويحلف كل واحد مع شاهده ، قال ابن القاسم : إذا شهد على وصية أوصى له فيها ثبت الثلث ، والوصايا تحيط بالثلث ، فإن كان الميت يداين الناس ويشك إن كان له على الناس ديون ثبتت ، بطلت الشهادة ، أو لا يداين الناس ، جازت ، قال ابن يونس : إذا شهد في وصيتين مختلفتين لهما في إحداهما يسير ، جازت الوصيتان وإلا ردت فيهما ، وعن مالك : إذا أشهدهما أن ثلث ماله : ثلث للمساكين ، وثلث لجيرانه ، وثلث لهما ، تجوز شهادتهما لأنها يسيرة ، قالاللخمي : في المدونة : إذا شهد في ذكر حق له فيه شيء ردت له أو لغيره ، قال في المجموعة : لأن أحدهما لا يأخذ منه شيئا إلا شاركه الآخر فيه ، ولو اقتسما قبل الشهادة جازت شهادته ، قال : فعلى هذا تجوز شهادته في الوصية لغيره ، وإن كثر ما يخصه منها إذا كانت الوصية لأحدهما بعبد ، وللآخر بثوب مثلا ; لأن أحدهما لا يدخل على الآخر ، فهي كشهادتين فلا ترد شهادة الأجنبي ، فإن قال : أنا أعلم أن شهادتي لا تقبل في نصيبي ، وإنما قصدت حق غيري ، وذكرت ما أوصى لي به لأؤدي ، أم جلس على ما وقع ، فأولى أن تبطل في حق الأجنبي .

                                                                                                                قال مطرف وعبد الملك : إذا شهد بعض الشهود لبعض على رجل واحد في مجلس ، امتنعت ، أو شيئا بعد شيء جاز ، أو على رجلين جاز في مجلس أو مجالس قال : وأخرى ردها كانت على رجلين أو رجل في مجلس أو مجالس لفظا [ ص: 274 ] أو بكتاب لاتهامهما على : اشهد لي وأشهد لك ، إلا أن يطول ما بينهما ، قال مالك : إذا شهدت عليه بمال في يدك : أنه تصدق به على فلان ، وفلان حاضر ، جاز ، أو غائب ، امتنعت ; لأنها ملك على أقر لك المال في يدك ، قال محمد : سلم المال ولا تشهد لأنك إن شهدت رددت للتهمة فلا تقبل بعد ذلك إذا قدم الغائب لتهمة الرد ، وإذا سلمته شهدت له إذا قدم ، قال : وأرى أن يثبت بالمال للحاكم ، أو قلت له : أوقفه حيث ترى أن تقبل الشهادة ، ويكاتب المشهود له إلا أن تبعد غيبته فيحلف صاحبه الغائب ويأخذ ، فإن قدم حلف واسترجعه ، ولو كان المال مما لا تتهم أنت في الانتفاع به عندك كالثوب ، قبلت الشهادة ; لأن العبد لا يتهم في مثل هذا ، وقد تسلف الدنانير ، حكى صاحب البيان فيما إذا شهد بوصية له فيها شيء : الأربعة الأقوال المتقدمة ثم قال : هذا إذا كانت الشهادة على وصية مكتوبة ، أما اللفظ نحو : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، والشاهد أحدهم ، والذي له يسير ، امتنعت شهادته لنفسه دون غيره ، وقد يقال : يبطل لغيره على رواية أشهب ; لأنه روى أنه لا تجوز شهادته في وصية بعد الوصية التي له هو ، وليس له في الثانية شيء ، ومع ذلك منع الإشهاد به ، قال محمد : لا تجوز شهادته في الثانية إلا أن يشهد أنه نسخ الأولى ، ويجوز لغيره على قول مطرف .

                                                                                                                فـرع

                                                                                                                في الكتــاب : توفي أحد المسافرين من قبائل شتى وأوصى بوصية ، تمتنع شهادة بعضهم لبعض فيها ، وإن شهد على وصية فيها عتق ووصايا القوم ، نفذت في الوصايا للقوم مع أيمانهم دون العتق ، فإن ضاق الثلث فإنما لهم من الثلث ما فضل عن العتق ، وإنما تبطل كلها لو شهد لنفسه فيها . ولو شهدت [ ص: 275 ] أنه تصدق بما أودعك لفلان أو أقر به ، حلف مع شهادتك واستحق إن كان حاضرا ، وتبطل شهادتك إن كان غائبا خشية اتهامك بانتفاعك بذلك المال ، قد تقدم كلام اللخمي على هذا في الفـرع الذي قبله ، قال ابن يونس : إنما يتهم في الوديعة إذا كانت طيبة تنتفع أنت في مثلها بالمال . في الموازية : إذا أوصى لك بعبده ولهما ثبت ماله فشهدا عليك أنك قتلت الموصى له ، ردت شهادتهما ; لأنهما ينتفعان بهما في الثلث ، ولو لم يوص إلا بثلاثة إذا جمع مع العبد لم ترد لارتفاع الحصاص ، وجوزها محمد مطلقا ; لأنه لا بد من الحصاص إما له وإما للورثة ، وأما الجاهلان الظانان أن الحصاص يسقط عنهما بسقوطك فلا ، قال محمد : ولو شهد بأنك قتلت الموصي ; لم ترد لعدم انتفاعهم ; لأن الورثة تقوم مقام الميت ، وقال ابن القاسم في المسلوبين : تقبل شهادتهم في الحد للحرابة دون الأموال ، وقال مطرف : تقبل منهما ; لأن الشهادة لا تتبعض ، وعن ابن القاسم : تجوز في الجميع إذا كان ما للمشهود من المال يسيرا كالوصية ، قال سحنون في أكرياء السفينة تعطب قبل البلاغ ، وقد نقد الكراء ، شهد بعضهم لبعض ويرجعون عليه ، ثم قال : ليس هذا موضع ضرورة فلا تقبل ; لأنهم كانوا يجدون من يشهد سواهم .

                                                                                                                نظــائر : قال العبدي : يجوز : اشهد لي وأشهد لك ، في مسألتين : المسلوبين وأهل المركب إذا كانوا ثلاثين ، وقيل : عشرين .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية