الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 259 ] الباب الثامن

                                                                                                                فــي

                                                                                                                موانع قبول شهادة العدول

                                                                                                                وهي عشرة :

                                                                                                                المانـــع الأول

                                                                                                                تهمة القرابة والنكاح وفي الكتــاب : تجوز شهادة الأخ ، والأجير ، والصديق الملاطف إلا أن يكونوا في عياله ، والمولى لمن أعتقه دون ابنه ، وأبيه ، وأمه ، وعبد ابنه ، والزوج ، والزوجة ، والجد ، وابن الجد ، ولا تجوز شهادتهم له ، ولا في تجريح من شهد عليه في التنبيهات : الملاطف : المختص بالرجل الذي يلاطف كل واحد منهما صاحبه ، والملاطفة : الإحسان والبر ، وهو أحد معاني تسميته تعالى لطيفا ، ولو كانت الملاطفة من أحدهما كانت مسألة الأخوين الذي ينال أحدهما بر الآخر ، واشترط مرة التبريز في الآخر ولم يشترطه أخرى ، وقيل في اليسير دون الكثير ، والمبرز بكسر الراء المهملة من البارز في حملة السباق أي تقدم على أقرانه ، قال اللخمي في الصديق : المنع لمالك إذا كانت تناله صلته ، وإلا جازت ، وجوزه ابن كنانة في اليسير ، ويمتنع الملاطف للملاطف وغيره ، وقيل : تجوز مطلقا ، وقال ابن يونس : قال سحنون : معنى الذي ليس في عياله من الأجراء ، هو الأجير المشترك نحو الصباغ ومن جميع عمله لك ، ويدفع إليه مؤنته ، امتنعت شهادته بشهادته كان في عيالك أم لا ، وقال ابن القاسم : الأخ يعدل ، ومنعه أشهب ؛ لأن تعديل أخيه شرف له ، قال ابن حبيب : تجوز شهادتك لمن هو في عيالك لعدم التهمة ، وقيل : إن كان الذي في العيال قريبا كالأخ ونحوه ، امتنعت شهادتك له ; لأنك تدفع بذلك النفقة عنك ، وكونك لا تنفق عليه [ ص: 260 ] معرة عليك بخلاف الأجنبي ، قال : وهذا استحسان ، ولا فرق بينهما ، وتمتنع شهادته لجده أو جدته من قبل الرجال والنساء ; لأن الجر إليهم جر له ، والدفع عنهم دفع عن نفسه .

                                                                                                                قال أصبــغ : يمتنع نقل الأب عن الابن ، والابن عن الأب وإن كانا مشهوري العدالة ، وكل من لا يعدله لا ينقل عنه ; لأن النقل عنه تقرير لشهادته وعدالته ، وجوز مطرف النقل ; لأنه لا يمتنع به إلا المشهود له دون التعديل ; لأنه ينتفع المعدل [ . . . ] وجوز عبد الملك شهادة الابن مع أبيه ، قال مالك : ولا يشهد لأحد أبويه عن الآخر إلا أن يكون مبرزا ، ويشهد في يسير ، وجوزه ابن نافع إلا في ولاية الأب ، أو يزوج على أمه [ . . . ] أن يكون غصب لأمه ، وقال سحنون في والدين مسلمين شهدا على غريم لابنهما وهو كافر ، له ولد كافر ، يمنع ; لأنها شهادة لأخيهما الكافر بالمال فلا للتهمة ، وعلى هذا لو شهدا أن أباهما العبد جنى جناية امتنع ؛ لاتهامهما في إخراجها من ذلك المالك ، قال ابن القاسم : لو شهد أربعة على أبيهم بالزنى لم يقبلوا لاتهامهم على الميراث ويحدون ، وقال أشهب : إن كان الأب عديما أو حده الجلد جاز ، ومنع أبو بكر اللباد إذا كان معدما ; لأن نفقته تلزمهم فتزول بالرجم ، قال أشهب : وشهادتهم أنه قتل فلانا عمدا كشهادتهم بالزنى وهو ثيب ، قال ابن القاسم : ويجوز على ولده أو والده إلا أن يكون عداوة إلا في طلاق ضرة أمه ، وأمه حية أو مطلقة ، بخلاف إن ماتت ، وتجوز لابنه الكبير على ابنه الصغير إلا أن يتهم بالأثرة والميل إليه ، ويمتنع لصغير أو سفيه كبير على كبير ; لأنهما مظنة الشفقة ، وقاله سحنون : ثم رجع للمنع في حق الابن مطلقا [ ص: 261 ] لما جاء من السنة في منع الشهادة للابن ، ومنع ابن القاسم لزوجة أبيه ، ولابن زوجته ، وأم امرأته وولدها ، وكذلك شهادة المرأة لابن زوجها ، قال أصبغ : ليس هو بالبين ، وجوزها سحنون لوالدي امرأته وولده إلا أن يلزم السلطان ولدها البينة عليها لضعف زوجها عن ذلك ، وجوز شهادته لزوج ابنته وأبي زوجها ولأمه ولأبيه وامرأته التي فارقها وإن كان له منها ولد دون تزكية لها ، وعنه إن كان مليا لا يحتاج ولده لأنه جاز ، وإلا فلا ، وكل شهادة تجلب نفعا لمن لا تجوز الشهادة له تمتنع عند ابن القاسم دون سحنون ، وعن مالك : تمتنع شهادتك لأخيك كان في عيالك أو كان عياله عيالك إذا أصبت شيئا ناله منه ، وتجوز شهادتك لعمك وخالك وابن أخيك إلا أن تكون أنت في عياله ، وإن كان في عيالك جازت في الحقوق إلا في القصاص وما فيه جملة وتتمة ، وكل من جازت لك شهادته جازت لك عدالته ، ومن لا فلا ، وفي الموازية : تجوز شهادته : أن فلانا قتل أخاه إن كان الولي والوارث غيره ، وقيل : يجوز للأخ مطلقا ، إلا أن تناله صلته ، قال ابن القاسم : تمنع شهادة القرابة والموالي في الرابع التي يتهمون فيها بالجر إليهم أو إلى بنيهم ولو على بعد ، مثل حبس مرجعه إليهم وإلى بنيهم ، قال اللخمي : يمنع للأجير إذا كانت نفقتك عليه تطوعا أو من الأجرة ; لأنك تخشى إن لم تشهد له يتركك ، وكذلك شهادة القصار ونحوه للتاجر ; لأنه يرجو منه أن يخصه بالعمل دون غيره من الصناع ، وتجوز شهادة التاجر له إلا أن يكون مرغوبا في عمله .

                                                                                                                [ ص: 262 ] فـرع

                                                                                                                قال اللخمي : إذا ردت شهادة الزوج لزوجته في العتق فإن كان عبدا فاختارت نفسها ألزم الطلاق بإقراره بالعتق واختيارها ، أو اختارت البقاء فهل يمنع منها ليلا يرق ولده أم لا ؟ لأن له حقا في الإصابة ، والتعدي من السيد في ثاني حال ، قال : وإن المنع إلا أن لا [ . . . ] ويعزل عـزلا بينا ، وكذلك إن كان حرا يختلف في تمكينه منها .

                                                                                                                فـرع

                                                                                                                قال : إن شهد أن زوج أمته طلقها أو أن عبده طلق امرأته ردت ; لاتهامه بتفريقهما من الزواج ، فإن صدقت الأمة السيد حرم عليها تمكين الزوج .

                                                                                                                فـرع

                                                                                                                قال : يمنع لسيد أبيه وسيد ولده أنه باعه أو وهبه ، وكان السيد مسيئا ، ثم ثبتت إساءته ، أو الثاني ابن ، وإلا جازت .

                                                                                                                فـرع

                                                                                                                قال : يختلف إذا شهد لأحد بنيه على الآخر وهما صغيران أو كبيران ، أو صغير وسفيه إذا لم يعلم حاله معهما ; لأن العادة إخفاء المودة بين الأقارب حتى لا يتغيروا استبقاء لودهم ، فقد يكون يحب أحدهما ونحن لا نعلم ، وإلا فالسؤال متجه بسبب استواء المشهود عليه في الريبة ، فهما كالأجنبيين فلا تهمة ، والفرق : ما تقدم ، وهو تعليل المنع بين الأبوين ، قال صاحب البيان : لو شهد لولده على ولد ولده ، رد ، قولا واحدا ، ويجوز عكسه اتفاقا لانتفاء التهمة ، قال في النوادر : قال مالك : الذين تمتنع الشهادة لهم من القرابة : الأبوان ، والجد ، والجدة ، والولد ، وولد الولد من الذكور أو الإناث ، وتجوز شهادة غيرهم .

                                                                                                                [ ص: 263 ] فـرع

                                                                                                                قال اللخمي : تجوز شهادته على أبيه بطلاق أمه ، وهو ينكر ذلك ، واختلف إن كانت القائمة بذلك ، منعها أشهب ; لأنها لأحد الأبوين ، وأجازها ابن القاسم مطلقا من غير تفصيل إنكار أو غيره ، واختلف إذا شهد بطلاق أمه وأمه حية مطلقة ، ومنعها ابن القاسم وأجازها أصبغ . وهذا إذا كانت منكرة ، فإن كانت قائمة بالشهادة والأم في عصمة الأب : منعها سحنون وأجازها أصبغ ، وقال : والقياس : المنع والأم في العصمة أم لا ; لأن العادة عداوة الولد لامرأة أبيه ، قال صاحب البيان : لا خلاف في شهادته على أبيه أو ابنه في الحقوق غير الطلاق ، فلو شهد على أبيه أنه طلق زوجتيه إحداهما أمه وهي طالبة الطلاق ، والأخرى طالبة طلقتا ، كانت الشهادة واحدة منهما ، اتحدت الشهادة أو تعددت لاتهامه في أمه بما رغب ، وفي ضرتها بما يكره من رضا أمه ، وإن كرهتا الطلاق امتنعت الشهادة إن كانت واحدة ; لأنها تسقط في الضرة التهمة ، وفي أمه لاتهامه في بعض الشهادة ، فإن تعددت نفذت في أمه دون الأخرى ، أو طالبتين الطلاق ردت إن اتحدت ; لأنها تسقط في حق أمه للتهمة ، وفي الأخرى لاتهامه في بعض الشهادة ، فإن افترقت نفذت للضرة ، وترد لأمه ; لأنه شاهد لها لما تطلب .

                                                                                                                فـرع

                                                                                                                قال : شهادة الأخ تمتنع فيما فيه له ، أو عصب ، أو ما يكسب حظوة ومنزلة ، أو يدفع معرة ، كتعديله أو تعديل من شهد له ، وتجريح من جرحه ، وفي الأموال أربعة أقوال ، ثالثها : إن كان مبرزا جاز وإلا فلا ، ورابعها : يجوز في اليسير ، وقال : وأدى الرد في الكثير الذي يؤدي إلى شرفه ، ويجوز في الوسط [ ص: 264 ] إن كان مبرزا ، ويرد في اليسير من غير المبرز ، ومتى كان للأخ المشهود له والمشهود عليه مقابحة توجب الحمية ، ردت مطلقا ، ويختلف في جراح الخطأ كما تقدم في المال ; لأنها مال ، والمذهب : المنع في جراح العمد ; لأنها موطن الحمية ، وأجازها أشهب ، وحيث منعنا الشهادة منعنا تعديل من شهد للأخ بذلك ، وتجريح من جرح شاهده ، أو شهد عليه ، وكل من لا تجوز الشهادة له لا تجوز لغيره بمال ، قال صاحب البيان : لا خلاف في شهادة [ . . . ] في المال وإن عظم إذا لم يكن في عيال المشهود له ، وأجاز ابن القاسم شهادته في [ . . . ] ومنع سحنون فيمن يتحمل بنكاحه ، ويحتمل أن يكون تفسيرا لقول ابن القاسم ، وظاهر قول ابن القاسم : جواز تعديله ونفي التجريح عنه .

                                                                                                                فـرع

                                                                                                                في النــوادر : منع سحنون شهادة ابن الملاعنة لأبيه الذي نفاه ; لأنه يتوقع منه استلحاقه .

                                                                                                                فـرع

                                                                                                                قال أصحابنا : تجوز شهادة الابن لأبيه أنه وكل فلانا ، وكذلك الابن لأبيه ، والجد والجدة وأحد الزوجين لصاحبه ، وأما إن كان أجنبيا وكل أحدهم فيمتنع ; لأنها شهادة يستوجب بها قبض المال ، وأنه وكل غيره عليه لا له ، قال سحنون : تجوز شهادة الابن أن أباه لما كان قاضيا حكم لهذا بكذا ، وكذلك الابن ، وكان يمنع ذلك ثم رجع للجواز لعدم التهمة .

                                                                                                                قاعدة : أصلها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ) بالظاء المعجمة ، وهو المتهم ، والتهمة ثلاثة أقسام : ملغاة إجماعا ، كشهادة الإنسان [ ص: 265 ] لرجل من قبيلة أهل بلده ، ومعتبرة إجماعا ، وهي شهادة الإنسان لنفسه ، ومختلف فيها هل تلحق بالأول لقصورها عن الثاني ، أو الثاني لارتفاعها عن الأول ، وهذه القاعدة هي منشأ الخلاف في جميع موانع الشهادة .

                                                                                                                تنبيه : وافقنا الأئمة في عمودي النسب علوا أو سفلا ، وخالفونا في الأخ إذا انقطع لأخيه ، وفي الصديق الملاطف . لنــا : الحديث المتقدم ، ولهم الآيات الدالة على قبول الشهادة ، والحديث أخص فيقدم ، ووافقنا ( ح ) وابن حنبل في الزوجين ، وخالفنا ( ش ) لنا : الحديث المتقدم معتضدا بقوله تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) ، وكل واحد منهما ينبسط في مال صاحبه أكثر من بسطه في مال أبيه وابنه ، وهما يتوارثان ، ولا يسقطان في الإرث كالابن والأب احترازا من غيرهما من القرابة ، فإنهم يسقطون ، فكان الشبه بعمودي النسب أقوى ، والزوج يتجمل بمال امرأته والمرأة تتسع بمال زوجها ، واحتجوا بعموم النصوص كـ ( ذوي عدل ) ، و ( شهيدين من رجالكم ) من غير تفصيل ، ولأن كل شخصين قبلت شهادتهما لهما ، إذا لم يكن بينهما معاوضة ، فقيل : إذا كانت كالبيع والإجارة ، ولأن عقد النكاح لا يزيد على ثبوت حق في ذمتها ، وذلك لا يمنع الشهادة . وغاية استحقاق الزوج لمنافعها ذلك ، ولأن النكاح مندوب إليه فلا يكون سببا لإبطال الشهادة .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن دليلنا خاص فيقدم على العمومات .

                                                                                                                وعن الثاني : أن مقصود البيع والإجارة : المكايسة ، ومقصود النكاح : المودة [ ص: 266 ] والمكارمة ، فحصلت التهمة ، ولأنه سبب يوجب الإرث ، وذلك دليل قوته بخلاف البيع .

                                                                                                                وعن الثالث : أن ثبوت الحقوق في الذمم لا يوجب مودة بخلاف النكاح .

                                                                                                                وعن الرابــع : أن المندوب إذا أفضى للتهمة منعها من جهة التهمة لا من جهة الندب ، كالشريكين إذا ندبا للشركة كالمتساعدين في الحج ولا تقبل شهادة أحدهما للآخر .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية