الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ) .

إيحاء الله إلى أم موسى : إلهام وقذف في القلب ، قاله ابن عباس وقتادة ؛ أو منام ، قاله قوم ؛ أو إرسال ملك ، قاله قطرب وقوم ، وهذا هو الظاهر لقوله : ( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) . وأجمعوا على أنها لم تكن نبية ، فإن كان الوحي بإرسال ملك ، كما هو الظاهر ، فهو كإرساله للأقرع والأبرص والأعمى ، وكما روي من تكليم الملائكة للناس . والظاهر أن هذا الإيحاء هو بعد الولادة ، فيكون ثم جملة محذوفة ، أي ووضعت موسى أمه في زمن الذبح وخافت عليه . ( وأوحينا ) و ( أن ) تفسيرية ، أو مصدرية . وقيل : كان الوحي قبل الولادة . وقرأ عمرو بن عبد الواحد ، وعمر بن عبد العزيز : " أن ارضعيه " ، بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس ؛ لأن القياس فيه نقل حركة الهمزة ، وهي الفتحة ، إلى النون ، كقراءة ورش .

( فإذا خفت عليه ) من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأولاد ( فألقيه في اليم ) . قال الجنيد : إذا خفت حفظه بواسطة ، فسلميه إلينا بإلقائه في البحر ، واقطعي عنك شفقتك وتدبيرك . وزمان إرضاعه ثلاثة أشهر ، أو أربعة ، أو ثمانية ، أقوال . واليم هنا : نيل مصر . ( ولا تخافي ) أي من غرقه وضياعه ، ومن التقاطه ، فيقتل ( ولا تحزني ) لمفارقتك إياه ( إنا رادوه إليك ) وعد صادق يسكن قلبها ويبشرها بحياته وجعله رسولا ، وقد تقدم في سورة طه طرف من حديث التابوت ورميه في اليم وكيفية التقاطه ، فأغنى عن إعادته . واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعرا فقالت : أبعد قوله تعالى ( وأوحينا إلى أم موسى ) الآية ، فصاحة ؟ وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين .

( فالتقطه آل فرعون ) في الكلام حذف تقديره : ففعلت ما أمرت به من إرضاعه ومن إلقائه في اليم . واللام في ( ليكون ) للتعليل المجازي ، لما كان مآل التقاطه وتربيته إلى كونه عدوا لهم ( وحزنا ) وإن كانوا لم يلتقطوه إلا للتبني ، وكونه يكون حبيبا لهم ، ويعبر عن هذه اللام بلام العاقبة وبلام الصيرورة . وقرأ الجمهور : " وحزنا " بفتح الحاء والزاي ، وهي لغة قريش . وقرأ ابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وابن سعدان : بضم الحاء وإسكان الزاي . والخاطئ : المتعمد الخطأ ، والمخطئ : الذي لا يتعمده . واحتمل أن يكون في الكلام حذف ، وهو الظاهر ، أي فكان لهم عدوا وحزنا ، أي لأنهم كانوا خاطئين ، لم يرجعوا إلى [ ص: 106 ] دينه ، وتعمدوا الجرائم والكفر بالله . وقال المبرد : خاطئين على أنفسهم بالتقاطه . وقيل : بقتل أولاد بني إسرائيل . وقيل : في تربية عدوهم .

وأضيف الجند هنا وفيما قبل إلى فرعون وهامان ، وإن كان هامان لا جنود له ؛ لأن أمر الجنود لا يستقيم إلا بالملك والوزير ، إذ بالوزير تحصل الأموال ، وبالملك وقهره يتوصل إلى تحصيلها ، ولا يكون قوام الجند إلا بالأموال . وقرئ : خاطيين ، بغير همز ، فاحتمل أن يكون أصله الهمز . وحذفت ، وهو الظاهر . وقيل : من خطا يخطو ، أي خاطيين الصواب .

ولما التقطوه ، هموا بقتله ، وخافوا أن يكون المولود الذي يحذرون زوال ملكهم على يديه ، فألقى الله محبته في قلب آسية امرأة فرعون ، ونقلوا أنها رأت نورا في التابوت ، وتسهل عليها فتحه بعد تعسر فتحه على يدي غيرها ، وأن بنت فرعون أحبته أيضا لبرئها من دائها الذي كان بها ، وهو البرص ، بإخبار من أخبر أنه لا يبرئها إلا ريق إنسان يوجد في تابوت في البحر .

وقرة : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو قرة ، ويبعد أن يكون مبتدأ والخبر ( لا تقتلوه ) ؛ وتقدم شرح " قرة " في آخر الفرقان . وذكر أنها لما قالت لفرعون : ( قرة عين لي ولك ) قال : لك لا لي . وروي أنها قالت له : لعله من قوم آخرين ليس من بني إسرائيل ، وأتبعت النهي عن قتله برجائها أن ينفعهم لظهور مخايل الخير فيه من النور الذي رأته ، ومن برء البرص ، أو يتخذوه ولدا ، فإنه أهل لذلك . ( وهم لا يشعرون ) جملة حالية ، أي لا يشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يديه ، قاله قتادة ؛ أو أنه عدو لهم ، قاله مجاهد ؛ أو أني أفعل ما أريد لا ما يريدون ، قاله محمد بن إسحاق . والظاهر أنه من كلام الله - تعالى - وقيل : هو من كلام امرأة فرعون ، أي قالت ذلك لفرعون ، والذين أشاروا بقتله لا يشعرون بمقالتها له واستعطاف قلبه عليه ، لئلا يغروه بقتله .

وقال الزمخشري : تقدير الكلام : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) و ( قالت امرأة فرعون ) كذا ( وهم لا يشعرون ) أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه . وقوله : ( إن فرعون ) الآية ، جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم . انتهى . ومتى أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية