الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

استئناف ناشئ عن قوله : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس إلخ . قسم الناس إلى قسمين : مؤمنين وكافرين ، أي فادعهم إلى النظر في دلائل الوحدانية والإرشاد إلى تحصيل أسباب الإيمان ودفع غشاوات الكفر ، وذلك بالإرشاد إلى النظر والاستدلال بما هو حول الإنسان من أحوال الموجودات وتصاريفها الدالة على الوحدانية ، مثل أجرام الكواكب ، وتقادير مسيرها ، وأحوال النور والظلمة والرياح والسحاب والمطر ، وكذلك البحار والجبال .

وافتتحت الجملة بـ قل للاهتمام بمضمونها .

وقد عمم ما في السماوات والأرض لتتوجه كل نفس إلى ما هو أقرب إليها وأيسر استدلالا عليه لديها .

والنظر : هنا مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري ، ولذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له ، فجيء بعده بالاستفهام المعلق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء فصار صالحا للمعنيين الحقيقي والمجازي ، وذلك من مقاصد القرآن .

[ ص: 296 ] وماذا بمعنى ما الذي ، وما استفهام ، وذا أصله اسم إشارة ، وهو إذا وقع بعد ما قام مقام اسم موصول . و في السماوات والأرض قائم مقام صلة الموصول . وأصل وضع التركيب : ما هذا في السماوات والأرض ، أي ما المشار إليه حال كونه في السماوات والأرض ، فكثر استعماله حتى صار في معنى : ما الذي . والمقصود : انظروا ما يدلكم على جواب هذا الاستفهام ، فكل شيء له حالة فهو مراد بالنظر العقلي بتركيبه في صورة مفعولين ، نحو : انظروا الشمس طالعة ، وانظروا السحاب ممطرا ، وهكذا ، وكل شيء هو في ذاته آية فهو مراد بالنظر البصري نحو : انظروا إنبات الأرض بعد جدبها فهو آية على وقوع البعث . فـ ذا لما قام مقام اسم الموصول صار من صيغ العموم تشمل جميع الأجرام وأعراضها الدالة على وحدانية الله وحكمته ، وأخص ذلك التأمل في خلق النبيء - صلى الله عليه وسلم - ونشأة دعوته ، والنظر فيما جاء به . فكل ذلك دلائل على كماله وصدقه .

وقد طوي في الكلام جواب الأمر لوقوع الأمر عقب أسباب الإيمان ، فالتقدير : انظروا تروا آيات موصلة إلى الإيمان .

وجملة وما تغني الآيات معترضة ذيلت بها جملة انظروا ماذا في السماوات والأرض فيجوز أن تكون متممة لمقول القول مما أمر النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله لهم ويجوز أن تكون استئناف كلام من الله تعالى . والمعنى أبلغهم ما أمرت بتبليغه إليهم وليست تغني الآيات عن قوم لا يؤمنون ، أي الذين جعل الله نفوسهم لا تؤمن ، ولما كان قوله : انظروا ماذا في السماوات والأرض مفيدا أن ذلك آيات كما تقدم حسن وقع التعبير عنها بالآيات هنا ، فمعنى وما تغني الآيات : وما يغني ما في السماوات والأرض عن قوم لا يؤمنون ، فكان التعبير بالآيات كالإظهار في مقام الإضمار . وزيدت النذر فعطفت على الآيات لزيادة التعميم في هذه الجملة حتى تكون أوسع دلالة من التي قبلها لتكون كالتذييل لها ، وذلك أن [ ص: 297 ] القرآن جاء للناس بالاستدلال وبالتخويف ثم سجل على هذا الفريق بأنه لا تنجع فيه الآيات والأدلة ولا النذر والمخوفات .

ولفظ قوم لا يؤمنون يفيد أن انتفاء الإيمان عنهم وصف عرفوا به وأنه مستقر من نفوسهم ; لأن اجتلاب لفظ قوم هنا مع صحة حلول غيره محله يشير إلى أن الوصف المذكور بعده من مقومات قوميتهم لأنه صار من خصائصهم ، بخلاف ما لو قيل : عمن لا يؤمنون . ألا ترى إلى قول العنبري :


قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا



أي : قوم هذه سجيتهم . وقد تقدم عند قوله - تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون في سورة البقرة . وتقدم في هذه السورة غير مرة آنفا . وهو هنا أبدع لأنه عدل به عن الإضمار . وهذا من بدائع الإعجاز هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية