الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 229 ] قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون

بيان لجملة ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض إلى آخرها ، وفي هذا البيان إدماج بحكاية فن من فنون كفرهم مغاير لادعاء شركاء لله ; لأن هذا كفر خفي من دينهم ، ولأن الاستدلال على إبطاله مغاير للاستدلال على إبطال الشركاء .

فضمير " قالوا " عائد إلى الذين يدعون من دون الله شركاء أي قال المشركون اتخذ الله ولدا . وليس المراد من الضمير غيرهم من النصارى لأن السورة مكية والقرآن المكي لم يتصد لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب ، ذلك أن كثيرا منهم كانوا يزعمون أن لله بنات هم الملائكة ، وهم بناته من سروات نساء الجن ، ولذلك عبدت فرق من العرب الجن قال - تعالى : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون

والاتخاذ : جعل شيء لفائدة الجاعل ، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه . وقد تقدم في قوله - تعالى : أتتخذ أصناما آلهة ، في سورة الأنعام ، وقوله : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ، في الأعراف ، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به ، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به . وهو هنا صالح للمعنيين لأن منهم من يعتقد تولد الولد عن الله تعالى ، ومنهم من يعتقد أن الله تبنى بعض مخلوقاته .

والولد : اسم مصوغ على وزن فعل مثل عمد وعرب . وهو مأخوذ من الولادة ، أي النتاج . يقال : ولدت المرأة والناقة ، ولعل أصل الولد مصدر [ ص: 230 ] ممات على وزن فعل مثل الفرح . ومن أجل ذلك أطلق على الواحد والجمع كما يوصف بالمصدر . يقال : هؤلاء ولد فلان . وفي الحديث أنا سيد ولد آدم والمراد هنا الجمع لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله استولدها من سروات الجن قال - تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه

وجملة سبحانه إنشاء تنزيه للرد عليهم ، فالجملة جواب لذلك المقال ولذلك فصلت عن التي قبلها . وهو اسم مصدر لـ " سبح " إذا نزه ، نائب عن الفعل ، أي نسبحه . وتقدم عند قوله - تعالى : قالوا سبحانك لا علم لنا في سورة البقرة ، أي تنزيها لله عن هذا لأن ما قالوه يستلزم تنقيص الله تعالى ، ولذلك بينت جملة التنزيه بجملة " هو الغني " بيانا لوجه التنزيه ، أي هو الغني عن اتخاذ الولد ; لأن الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كل احتياج إلى مكمل نقص في الذات أو الأفعال ، واتخاذ الولد إما أن ينشأ عن اندفاع طبيعي لقضاء الشهوة عن غير قصد التوليد وكونها نقصا غير خفي ، وإما أن ينشأ عن القصد والتفكير في إيجاد الولد ، وذلك لا يكون إلا لسد ثلمة نقص من حاجة إلى معنى في الحياة أو خلف بعد الممات . وكل ذلك مناف للإلهية التي تقتضي الاتصاف بغاية الكمال في الذات والصفات والأفعال .

والغني : الموصوف بالغنى ، فعيل للمبالغة في فعل " غني " عن كذا إذا كان غير محتاج ، وغنى الله هو الغنى المطلق . وفسر في أصول الدين الغنى المطلق بأنه عدم الافتقار إلى المخصص وإلى المحل ، فالمخصص هو الذي يعين للممكن إحدى صفتي الوجود أو العدم عوضا عن الأخرى ، فبذلك ثبت للإله الوجود الواجب ، أي الذي لا يتصور انتفاؤه ولذلك انتفى عنه التركيب من أجزاء وأبعاض ومن أجل ذلك امتنع أن ينفصل عنه شيء منه ، والولد ينشأ من جزء منفصل عن الوالد ، فلا جرم أن كان الغني منزها عن الولد من جهة الانفصال ، ثم هو أيضا لا يجوز أن يتخذ بعض المخلوقات ولدا له بالتبني لأجل كونه غنيا عن الحاجات التي تبعث على اتخاذ الولد من طلب معونة أو إيناس أو خلف ، قال - تعالى : [ ص: 231 ] وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون وقال " بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد

وجملة له ما في السماوات وما في الأرض مقررة لوصف الغنى بأن ما في السماوات وما في الأرض ملكه ، فهو يسخر كل موجود لما خلقه لأجله ، فلا يحتاج إلى إعانة ولد ، ولا إلى ترفيع رتبة أحد استصناعا له كما يفعل الملوك لقواد جيوشهم وأمراء أقطارهم وممالكهم لاكتساب مودتهم وإخلاصهم . وهذا مساو للاستدلال على نفي الشريك في قوله آنفا " ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن " ودل قوله : له ما في السماوات وما في الأرض على أن صفة العبودية تنافي صفة البنوة وذلك مثل قوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون

ويؤخذ من هذا أن الولد لا يسترق لأبيه ولا لأمه ولذلك يعتق الولد على من يملكه من أب أو أم وإن عليا .

وجملة " إن عندكم من سلطان بهذا " جواب ثان لقولهم " اتخذ الله ولدا فلذلك فصلت كما فصلت جملة " سبحانه " ، فبعد أن استدل على إبطال قولهم ، سجل عليهم أنهم لا حجة لهم في قولهم ذلك .

و " إن " حرف نفي .

و " من " مزيدة لتأكيد النفي بالاستغراق ، أي استغراق نفي جميع أنواع الحجة قويها وضعيفها ، عقليها وشرعيها .

و " عند " هنا مستعملة مجازا . شبه وجود الحجة للمحتج بالكون في مكانه ، والمعنى : لا حجة لكم .

و " سلطان " محله رفع بالابتداء ، وخبره عندكم واشتغل آخر المبتدأ عن الضمة بكسرة حرف الجر الزائدة .

[ ص: 232 ] والسلطان : البرهان والحجة ; لأنه يكسب المستدل به سلطة على مخالفه ومجادله . وقد تقدم عند قوله - تعالى : ما نزل الله بها من سلطان في سورة الأعراف .

والباء للملابسة ، وهي في موضع صفة لـ " سلطان " ، أي سلطان ملابس لهذا . والإشارة إلى المقول .

والمعنى : لا حجة لكم تصاحب مقولكم بأن الله اتخذ ولدا .

وجملة " أتقولون على الله ما لا تعلمون " جواب ثالث ناشئ عن الجوابين لأنهم لما أبطل قولهم بالحجة . ونفى أن تكون لهم على قولهم حجة كانوا أحرياء بالتوبيخ والتشنيع بأنهم يجترئون على جناب الله فيصفون الله بما لا يعلمون ، أي بما لا يوقنون به ، ولكونها جوابا فصلت .

فالاستفهام مستعمل في التوبيخ ; لأن المذكور بعده شيء ذميم ، واجتراء عظيم وجهل كبير مركب .

التالي السابق


الخدمات العلمية