الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إذا بقي في حثالة من الناس

                                                                                                                                                                                                        6675 حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب حدثنا حذيفة قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة وحدثنا عن رفعها قال ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء ويصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولقد أتى علي زمان ولا أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما رده علي الإسلام وإن كان نصرانيا رده علي ساعيه وأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( باب إذا بقي ) أي المسلم ( في حثالة من الناس ) أي ماذا يصنع ؟ والحثالة بضم المهملة وتخفيف المثلثة وتقدم تفسيرها في أوائل كتاب الرقاق ، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الطبري وصححه ابن حبان من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا ، وشبك بين أصابعه . قال : فما تأمرني ؟ قال : عليك بخاصتك ، ودع عنك عوامهم " قال ابن بطال : أشار البخاري إلى هذا الحديث ولم يخرجه لأن العلاء ليس من شرطه فأدخل معناه في حديث حذيفة . قلت : يجتمع معه في قلة الأمانة وعدم الوفاء بالعهد وشدة الاختلاف ، وفي كل منهما زيادة ليست في الآخر ، وقد ورد عن ابن عمر مثل حديث أبي هريرة أخرجه حنبل بن إسحاق في كتاب الفتن من طريق عاصم بن محمد عن أخيه واقد وتقدم في أبواب المساجد من كتاب الصلاة من طريق واقد وهو محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، سمعت أبي يقول قال عبد الله بن عمر " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبد الله بن عمرو كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس " إلى هنا انتهى . ما في البخاري وبقيته عند حنبل مثل حديث أبي هريرة سواء ، وزاد " قال : فكيف تأمرني يا رسول الله ؟ قال : تأخذ بما تعرف وتدع ما تنكر ، وتقبل على خاصتك وتدع عوامهم . وأخرجه أبو يعلى من هذا الوجه . وأخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو نفسه من طرق بعضها صحيح الإسناد وفيه : " قالوا كيف بنا يا رسول الله ؟ قال : تأخذون ما تعرفون " فذكر مثله بصيغة الجمع في جميع ذلك ، وأخرجه الطبراني وابن عدي من طريق عبد الحميد بن جعفر بن الحكم عن أبيه عن علباء بكسر المهملة وسكون [ ص: 43 ] اللام بعدها موحدة ومد - رفعه " لا تقوم الساعة إلا على حثالة الناس ، الحديث . وللطبراني من حديث سهل بن سعد قال " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس فيه عمرو بن العاص وابناه فقال ، فذكر مثله ، وزاد " وإياكم والتلون في دين الله " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حدثنا محمد بن كثير ) تقدم بهذا السند في كتاب الرقاق في " باب رفع الأمانة " وأن الجذر الأصل وتفتح جيمه وتكسر .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ) كذا في هذه الرواية بإعادة ثم ، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن ، والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجبا كان أو مندوبا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وحدثنا عن رفعها ) هذا هو الحديث الثاني الذي ذكر حذيفة أنه ينتظره وهو رفع الأمانة أصلا حتى لا يبقى من يوصف بالأمانة إلا النادر ، ولا يعكر على ذلك ما ذكره في آخر الحديث مما يدل على قلة من ينسب للأمانة فإن ذلك بالنسبة إلى حال الأولين ، فالذين أشار إليهم بقوله : ما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا " هم من أهل العصر الأخير الذي أدركه والأمانة فيهم بالنسبة إلى العصر الأول أقل ، وأما الذي ينتظره فإنه حيث تفقد الأمانة من الجميع إلا النادر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : فيظل أثرها ) أي : يصير وأصل " ظل " ما عمل بالنهار ثم أطلق على كل وقت ، وهي هنا على بابها لأنه ذكر الحالة التي تكون بعد النوم وهي غالبا تقع عند الصبح ، والمعنى أن الأمانة تذهب حتى لا يبقى منها إلا الأثر الموصوف في الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : مثل أثر الوكت ) بفتح الواو وسكون الكاف بعدها مثناة ، تقدم تفسيره في الرقاق وأنه سواد في اللون ، وكذا المجل وهو بفتح الميم وسكون الجيم أثر العمل في اليد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : فنفط ) بكسر الفاء بعد النون المفتوحة أي صار منتفطا وهو المنتبر بنون ثم مثناة ثم موحدة - يقال انتبر الجرح وانتفط إذا ورم وامتلأ ماء وحاصل الخبر أنه أنذر برفع الأمانة وأن الموصوف بالأمانة يسلبها حتى يصير خائنا بعد أن كان أمينا ، وهذا إنما يقع على ما هو شاهد لمن خالط أهل الخيانة فإنه يصير خائنا لأن القرين يقتدي بقرينه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ولقد أتى علي زمان إلخ ) يشير إلى أن حال الأمانة أخذ في النقص من ذلك الزمان ، وكانت وفاة حذيفة في أول سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان بقليل ، فأدرك بعض الزمن الذي وقع فيه التغير فأشار إليه ، قال ابن التين : الأمانة كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف . وعن ابن عباس : هي الفرائض التي أمروا بها ونهوا عنها ، وقيل هي الطاعة ، وقيل التكاليف ، وقيل العهد الذي أخذه الله على العباد . وهذا الاختلاف وقع في تفسير الأمانة المذكورة في الآية إنا عرضنا الأمانة وقال صاحب التحرير : الأمانة المذكورة في الحديث هي الأمانة المذكورة في الآية ، وهي عين الإيمان ، فإذا استمكنت في القلب قام بأداء ما أمر به واجتنب ما نهي عنه . وقال ابن العربي : المراد بالأمانة في حديث حذيفة الإيمان ، وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها أن الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان ، حتى إذا تناهى الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان ، وهو التلفظ باللسان والاعتقاد الضعيف في ظاهر [ ص: 44 ] القلب ، فشبهه بالأثر في ظاهر البدن ، وكنى عن ضعف الإيمان بالنوم ، وضرب مثلا لزهوق الإيمان عن القلب حالا بزهوق الحجر عن الرجل حتى يقع بالأرض .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ولا أبالي أيكم بايعت ) تقدم في الرقاق أن مراده المبايعة في السلع ونحوها ، لا المبايعة بالخلافة ولا الإمارة . وقد اشتد إنكار أبي عبيد وغيره على من حمل المبايعة هنا على الخلافة وهو واضح ، ووقع في عبارته أن حذيفة كان لا يرضى بأحد بعد عمر يعني في الخلافة وهي مبالغة ، وإلا فقد كان عثمان ولاه على المدائن وقد قتل عثمان وهو عليها ، وبايع لعلي وحرض على المبايعة له والقيام في نصره ، ومات في أوائل خلافته كما مضى في " باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما " والمراد أنه لوثوقه بوجود الأمانة في الناس أولا كان يقدم على مبايعة من اتفق من غير بحث عن حاله ، فلما بدا التغير في الناس وظهرت الخيانة صار لا يبايع إلا من يعرف حاله ، ثم أجاب عن إيراد مقدر كأن قائلا قال له : لم تزل الخيانة موجودة لأن الوقت الذي أشرت إليه كان أهل الكفر فيه موجودين وهم أهل الخيانة ، فأجاب بأنه وإن كان الأمر كذلك لكنه كان يثق بالمؤمن لذاته وبالكافر لوجود ساعيه وهو الحاكم الذي يحكم عليه ، وكانوا لا يستعملون في كل عمل قل أو جل إلا المسلم ، فكان واثقا بإنصافه وتخليص حقه من الكافر إن خانه ، بخلاف الوقت الأخير الذي أشار إليه فإنه صار لا يبايع إلا أفرادا من الناس يثق بهم . وقال ابن العربي : قال حذيفة هذا القول لما تغيرت الأحوال التي كان يعرفها على عهد النبوة والخليفتين فأشار إلى ذلك بالمبايعة ، وكنى عن الإيمان بالأمانة وعما يخالف أحكامه بالخيانة ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية