الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب نزع الماء من البئر حتى يروى الناس رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        6616 حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير حدثنا شعيب بن حرب حدثنا صخر بن جويرية حدثنا نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما حدثه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا على بئر أنزع منها إذ جاء أبو بكر وعمر فأخذ أبو بكر الدلو فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف فغفر الله له ثم أخذها عمر بن الخطاب من يد أبي بكر فاستحالت في يده غربا فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن [ ص: 430 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 430 ] قوله : ( باب نزع الماء من البئر حتى يروى الناس ) هو بفتح الواو من الري ، والنزع بفتح النون وسكون الزاي إخراج الماء للاستسقاء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم ) وصله المصنف من حديثه في الباب الذي بعده .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير ) هو الدورقي وشعيب بن حرب هو المدائني يكنى أبا صالح كان أصله من بغداد فسكن المدائن حتى نسب إليها ثم انتقل إلى مكة فنزلها إلى أن مات بها ، وكان صدوقا شديد الورع ، وقد وثقه يحيى بن معين والنسائي والدارقطني وآخرون وما له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد ، وقد ذكره في الضعفاء شعيب بن حرب فقال : منكر الحديث مجهول ، وأظنه آخر وافق اسمه واسم أبيه والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بينا أنا على بئر أنزع منها ) أي أستخرج منها الماء بآلة كالدلو . وفي حديث أبي هريرة في الباب الذي يليه " رأيتني على قليب وعليها دلو فنزعت منها ما شاء الله " ، وفي رواية همام " رأيت أني على حوض أسقي الناس " والجمع بينهما أن القليب هو البئر المقلوب ترابها قبل الطي ، والحوض هو الذي يجعل بجانب البئر لشرب الإبل فلا منافاة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذ جاءني أبو بكر وعمر ) في رواية أبي يونس عن أبي هريرة " فجاءني أبو بكر فأخذ أبو بكر الدلو " أي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يملأ بها الماء ، ووقع في رواية همام الآتية بعد هذا " فأخذ أبو بكر مني الدلو ليريحني " ، وفي رواية أبي يونس " ليروحني " وأول حديث سالم عن أبيه في الباب الذي يليه " رأيت الناس اجتمعوا " ، ولم يذكر قصة النزع ، ووقع في رواية أبي بكر بن سالم عن أبيه " أريت في النوم أني أنزع على قليب بدلو بكرة " فذكر الحديث نحوه أخرجه أبو عوانة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فنزع ذنوبا أو ذنوبين ) كذا هنا ، ومثله لأكثر الرواة ، ووقع في رواية همام المذكورة " ذنوبين " ولم يشك ، ومثله في رواية أبي يونس ، والذنوب بفتح المعجمة الدلو الممتلئ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وفي نزعه ضعف ) تقدم شرحه وبيان الاختلاف في تأويله في آخر علامات النبوة في مناقب عمر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فغفر الله له ) وقع في الروايات المذكورة " والله يغفر له " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر ) كذا هنا ، ولم يذكر مثله في أخذ أبي بكر الدلو من النبي صلى الله عليه وسلم ، ففيه إشارة إلى أن عمر ولي الخلافة بعهد من أبي بكر إليه بخلاف أبي بكر فلم تكن خلافته بعهد صريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن وقعت عدة إشارات إلى ذلك فيها ما يقرب من الصريح .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فاستحالت في يده غربا ) أي تحولت الدلو غربا ، وهي بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة بلفظ مقابل الشرق ، قال أهل اللغة : الغرب الدلو العظيمة المتخذة من جلود البقر ، فإذا فتحت الراء فهو الماء الذي يسيل بين البئر والحوض .

                                                                                                                                                                                                        ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك البوني أن الغرب كل شيء رفيع ، [ ص: 431 ] وعن الداودي قال : المراد أن الدلو أحالت باطن كفيه حتى صار أحمر من كثرة الاستسقاء ، قال ابن التين : وقد أنكر ذلك أهل العلم وردوه على قائله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلم أر عبقريا ) تقدم ضبطه وبيانه في مناقب عمر ، وكذلك قوله : " يفري فريه " ، ووقع عند النسائي في رواية ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه : قال حجاج قلت لابن جريج : ما استحال؟ قال : رجع .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ما العبقري؟ قال : الأجير . وتفسير العبقري بالأجير غريب قال أبو عمرو الشيباني : عبقري القوم سيدهم وقويهم وكبيرهم .

                                                                                                                                                                                                        وقال الفارابي : العبقري من الرجال الذي ليس فوقه شيء . وذكر الأزهري أن عبقر موضع بالبادية ، وقيل بلد كان ينسج فيه البسط الموشية فاستعمل في كل شيء جيد وفي كل شيء فائق . ونقل أبو عبيد أنها من أرض الجن ، وصار مثلا لكل ما ينسب إلى شيء نفيس .

                                                                                                                                                                                                        وقال الفراء : العبقري السيد وكل فاخر من حيوان وجوهر وبساط وضعت عليه وأطلقوه في كل شيء عظيم في نفسه . وقد وقع في رواية عقيل المشار إليه " ينزع نزع ابن الخطاب " وفي رواية أبي يونس " فلم أر نزع رجل قط أقوى منه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى ضرب الناس بعطن ) بفتح المهملتين وآخره نون هو ما يعد للشرب حول البئر من مبارك الإبل ، والمراد بقوله : " ضرب " أي ضربت الإبل بعطن بركت ، والعطن للإبل كالوطن للناس لكن غلب على مبركها حول الحوض . ووقع في رواية أبي بكر بن سالم عن أبيه عند أبي بكر بن أبي شيبة " حتى روى الناس وضربوا بعطن " .

                                                                                                                                                                                                        ووقع في رواية همام " فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجر " ، وفي رواية أبي يونس " ملآن ينفجر " قال القاضي عياض : ظاهر هذا الحديث أن المراد خلافة عمر ، وقيل هو لخلافتهما معا لأن أبا بكر جمع شمل المسلمين أولا بدفع أهل الردة وابتدأت الفتوح في زمانه ، ثم عهد إلى عمر فكثرت في خلافته الفتوح واتسع أمر الإسلام واستقرت قواعده .

                                                                                                                                                                                                        وقال غيره : معنى عظم الدلو في يد عمر كون الفتوح كثرت في زمانه ومعنى " استحالت " انقلبت عن الصغر إلى الكبر .

                                                                                                                                                                                                        وقال النووي : قالوا هذا المنام مثال لما جرى للخليفتين من ظهور آثارهما الصالحة وانتفاع الناس بهما ، وكل ذلك مأخوذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه صاحب الأمر فقام به أكمل قيام وقرر قواعد الدين ، ثم خلفه أبو بكر فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم ، ثم خلفه عمر فاتسع الإسلام في زمنه ، فشبه أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم وشبه بالمستقي لهم منها وسقيه هو قيامه بمصالحهم ، وفي قوله : " ليريحني " إشارة إلى خلافة أبي بكر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن في الموت راحة من كدر الدنيا وتعبها ، فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم .

                                                                                                                                                                                                        وأما قوله : " وفي نزعه ضعف " فليس فيه حط من فضيلته ، وإنما هو إخبار عن حاله في قصر مدة ولايته ، وأما ولاية عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين ، وأما قوله : " والله يغفر له " فليس فيه نقص له ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب ، وإنما هي كلمة كانوا يقولونها يدعمون بها الكلام . وفي الحديث إعلام بخلافتهما وصحة ولايتهما وكثرة الانتفاع بهما ، فكان كما قال .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن العربي : ليس المراد بالدلو التقدير الدال على قصر الحظ ، بل المراد التمكن من البئر ، وقوله في الرواية المذكورة : بدلو بكرة فيه إشارة إلى صغر الدلو قبل أن يصير غربا .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج أبو ذر الهروي في كتاب الرؤيا من حديث ابن مسعود نحو حديث الباب ، لكن قال في آخره " فعبرها يا أبا بكر ، قال : ألي الأمر بعدك ويليه بعدي عمر . قال : كذلك عبرها الملك " وفي سنده أيوب بن جابر وهو ضعيف [ ص: 432 ] وهذه الزيادة منكرة .

                                                                                                                                                                                                        وقد ورد هذا الحديث من وجه آخر بزيادة فيه ، فأخرج أحمد وأبو داود واختار الضياء من طريق أشعث بن عبد الرحمن الجرمي عن أبيه عن سمرة بن جندب " أن رجلا قال : يا رسول الله رأيت كأن دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا ، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء " وهذا يبين أن المراد بالنزع الضعيف والنزع القوي الفتوح والغنائم ، وقوله : " دلي " بضم المهملة وتشديد اللام أي أرسل إلى أسفل ، وقوله : " بعراقيها " بكسر المهملة وفتح القاف ، والعراقان خشبتان تجعلان على فم الدلو متخالفتان لربط الدلو . وقوله : " تضلع " بالضاد المعجمة أي ملأ أضلاعه كناية عن الشبع ، وقوله : " انتشطت " بضم المثناة وكسر المعجمة بعدها طاء مهملة أي نزعت منه فاضطربت وسقط بعض ما فيها أو كله .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن العربي : حديث سمرة يعارض حديث ابن عمر وهما خبران .

                                                                                                                                                                                                        قلت : الثاني هو المعتمد ، فحديث ابن عمر مصرح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الرائي ، وحديث سمرة فيه أن رجلا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى ، وقد أخرج أحمد من حديث أبي الطفيل شاهدا لحديث ابن عمر وزاد فيه " فوردت علي غنم سود وغنم عفر " وقال فيه " فأولت السود العرب والعفر العجم " ، وفي قصة عمر " فملأ الحوض وأروى الواردة " ، ومن المغايرة بينهما أيضا أن في حديث ابن عمر " نزع الماء من البئر " وحديث سمرة فيه نزول الماء من السماء ، فهما قصتان تشد إحداهما الأخرى ، وكأن قصة حديث سمرة سابقة فنزل الماء من السماء وهي خزانته فأسكن في الأرض كما يقتضيه حديث سمرة ثم أخرج منها بالدلو كما دل عليه حديث ابن عمر .

                                                                                                                                                                                                        وفي حديث سمرة إشارة إلى نزول النصر من السماء على الخلفاء ، وفي حديث ابن عمر إشارة إلى استيلائهم على كنوز الأرض بأيديهم ، وكلاهما ظاهر من الفتوح التي فتحوها . وفي حديث سمرة زيادة إشارة إلى ما وقع لعلي من الفتن والاختلاف عليه ؛ فإن الناس أجمعوا على خلافته ثم لم يلبث أهل الجمل أن خرجوا عليه وامتنعمعاوية في أهل الشام ثم حاربه بصفين ثم غلب بعد قليل على مصر ، وخرجت الحرورية على علي فلم يحصل له في أيام خلافته راحة ، فضرب المنام المذكور مثلا لأحوالهم ، رضوان الله عليهم أجمعين .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية