الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 267 ] فصل

في ذكر الخلاف في صحة إيمان المقلد في العقائد وعدمها وفي جوازه وعدمه ، وقد أشار الناظم إلى هذا المقام والذي هو مزلة أقدام فقال :

( ( وكل ما يطلب فيه الجزم فمنع تقليد بذاك حتم ) )


( ( لأنه لا يكتفى بالظن     لذي الحجى في قول أهل الفن ) )


( ( وقيل يكفي الجزم إجماعا بما     يطلب فيه عند بعض العلما ) )


( ( فالجازمون من عوام البشر     فمسلمون عند أهل الأثر ) )

.

( ( وكل ما ) ) أي حكم ومطلوب مما عنه الذكر الحكمي ، وهو المعنى الذي يعبر عنه بالكلام الخبري ، وهو ما أنبأ عن أمر في نفسك من إثبات أو نفي ، والمراد هنا كل اعتقاد ( ( يطلب فيه ) ) أي ذلك الاعتقاد من معرفة الله تعالى ، وما يجب له ويستحيل عليه ، ويجوز ( ( الجزم ) ) بأن يجزم به جزما لا يحتمل متعلقه النقيض عنده لو قدره في نفسه ، فإن طابق الواقع فهو اعتقاد صحيح وإلا ففاسد ، فما كان من هذا الباب ( ( فمنع تقليد ) ) وهو لغة وضع الشيء في العنق حال كونه محيطا به ، وذلك الشيء يسمى قلادة وجمعها قلائد ، وعرفا أخذ مذهب الغير يعني اعتقاد صحته واتباعه عليه بلا دليل ، فإن أخذه بالدليل فليس بمقلد له فيه ، ولو وافقه فالرجوع إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - ليس بتقليد .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - في المسودة : التقليد قبول القول بغير دليل ، فليس المصير إلى الإجماع بتقليد ، لأن الإجماع دليل ، ولذلك يقبل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يقال تقليد ، وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - في رواية أبي الحارث من قلد الخبر رجوت أن يسلم إن شاء الله تعالى فأطلق اسم التقليد على من صار إلى الخبر ، وإن كان حجة بنفسه .

انتهى ملخصا ( ( بذاك ) ) أي بما يطلب فيه الجزم ولا يكتفى فيه بالظن ( ( حتم ) ) بفتح الحاء المهملة وسكون التاء المثناة فوق أي لازم واجب ، قال علماؤنا وغيرهم يحرم التقليد في معرفة الله تعالى ، وفي التوحيد والرسالة ، وكذا في أركان الإسلام الخمس ، ونحوها مما تواتر واشتهر ، عند الإمام أحمد - رضي الله عنه - والأكثر وذكره أبو الخطاب عن عامة العلماء ، وذكر غيره أنه قول الجمهور قاله [ ص: 268 ] في شرح التحرير ، قال : وأطلق الحلواني من أصحابنا وغيره منع التقليد في أصول الدين ، واستدلوا لتحريم التقليد بأمره سبحانه وتعالى بالتدبر والتفكر والنظر .

وفي صحيح ابن حبان لما نزل في آل عمران " إن في خلق السماوات والأرض " الآيات قال - صلى الله عليه وسلم - : " ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن ، ويل له ، ويل له " .

والإجماع على وجوب معرفة الله تعالى ، ولا تحصل بتقليد لجواز كذب المخبر ، واستحالة حصولها ، كمن قلد في حدوث العالم ، وكمن قلد في قدمه ، ولأن التقليد لو أفاد علما ، فإما بالضرورة ، وهو باطل ، وإما بالنظر ، فيستلزم الدليل والأصل عدمه ، والعلم يحصل بالنظر ، واحتمال الخطأ لعدم مراعاة القانون الصحيح ، ولأن الله تعالى ذم التقليد بقوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة ولقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله فألزم الشارع بالعلم ، ويلزمنا نحن أيضا ؛ لقوله : ( واتبعوه لعلكم تهتدون ) .

فتعين طلب اليقين في الوحدانية ، ويقاس عليها غيرها ، والتقليد لا يفيد إلا الظن ، ولهذا قال معللا للمنع عنه بقوله ( ( لأنه ) ) أي الشأن والأمر والقصة ( ( لا يكتفى ) ) في أصول الدين ، ومعرفة الله رب العالمين ( ( بالظن ) ) الذي هو ترجيح أحد الطرفين على الآخر ، فالراجح هو الظن ، والمرجوح الوهم ، فلا يكتفى به في أصول الدين ( ( لذي ) ) أي لصاحب ( ( الحجى ) ) كإلى أي العقل والفطنة ( ( في قول أهل الفن ) ) من الأئمة وعلماء المنقول والمعقول من الأصوليين والمتكلمة وغيرهم .

قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : كل ما يطلب فيه الجزم يمتنع التقليد فيه ، والأخذ فيه بالظن لأنه لا يفيده ، وإنما يفيده دليل قطعي ، قال : في شرح مختصر التحرير : وأجازه - يعني في التقليد في أصول الدين - جمع ، قال بعضهم : ولو بطريق فاسد .

قال العلامة ابن مفلح : وأجازه بعض الشافعية لإجماع السلف على قبول الشهادتين من غير أن يقال لقائلها هل نظرت ؟ وسمعه الإمام ابن عقيل ، عن أبي القاسم ابن التبان المعتزلي قال : وإنه يكتفى بطريق فاسد ، وقال هذا المعتزلي : إذا عرف الله ، وصدق رسوله ، وسكن قلبه إلى ذلك ، واطمأن به ، فلا علينا من طريق تقليد كان أو نظرا أو استدلالا ، وإلى هذا الإشارة بقوله ( ( وقيل يكفي ) ) في أصول الدين ( ( الجزم ) ) [ ص: 269 ] ولو تقليدا ( ( إجماعيا ) ) ( ( ب ) ) كل ( ( ما ) ) أي حكم ( ( يطلب ) ) بضم أوله مبنيا لما لم يسم فاعله ، ونائب الفاعل مضمر يعود على الجزم ( ( فيه ) ) أي فيه ذلك المطلوب من أصول الدين ( ( عند بعض العلماء ) ) من علماء مذهبنا والشافعية والمعتزلة وغيرهم .

قال العنبري وغيره يجوز التقليد في أصول الدين ، ولا يجب النظر اكتفاء بالعقد الجازم ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكتفي في الإيمان من الأعراب - وليسوا أهلا للنظر - بالتلفظ بكلمتي الشهادة المنبئ عن العقد الجازم ، ويقاس غير الإيمان من أصول الدين عليه .

وقال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : وقيل يكفي الجزم يعني بالظن إجماعا بما يطلب فيه الجزم ، ( ( فالجازمون ) ) حينئذ بعقدهم ، ولو تقليدا ( ( من عوام البشر ) ) الذين ليسوا بأهل للنظر والاستدلال ، بما لا يتم الإسلام بدونه ( ( ف ) ) على الصواب هم ( ( مسلمون عند أهل الأثر ) ) وأكثر النظار والمحققين وإن عجزوا عن بيان ما لم يتم الإسلام إلا به .

وقال ابن حامد من علمائنا : لا يشترط أن يجزم عن دليل - يعني بل يكفي الجزم ولو عن تقليد ، وقيل الناس كلهم مؤمنون حكما في النكاح والإرث وغيرهما ، ولا يدرى ما هم عند الله ، انتهى .

وقال العلامة المحقق ابن قاضي الجبل من علمائنا في أصوله : قال ابن عقيل : القياس النقلي حجة يجب العمل به ، ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع ، قال : ولا يجوز التقليد ، والحق الذي لا محيد عنه ، ولا انفكاك لأحد منه صحة إيمان المقلد تقليدا جازما صحيحا ، وأن النظر والاستدلال ليسا بواجبين ، وأن التقليد الصحيح محصل للعلم والمعرفة ، نعم يجب النظر على من لا يحصل له التصديق الجازم أول ما تبلغه الدعوة .

قال بعض علماء الشافعية : اعلم أن وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا يشترط فيه أن يكون عن نظر واستدلال ، بل يكفي اعتقاد جازم بذلك ، إذ المختار الذي عليه السلف وأئمة الفتوى من الخلف وعامة الفقهاء ، صحة إيمان المقلد ، قال : وأما ما نقل عن الإمام الشيخ أبي الحسن الأشعري من عدم صحة إيمان المقلد ، فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري .

ثم قال : ومما يرد على زاعمي بطلان إيمان المقلد أن الصحابة رضوان الله [ ص: 270 ] عليهم أجمعين فتحوا أكثر العجم ، وقبلوا إيمان عوامهم ، كأجلاف العرب ، وإن كان تحت السيف ، أو تبعا لكبير منهم أسلم ، ولم يأمروا أحدا منهم بترديد نظر ، ولا سألوه عن دليل تصديقه ، ولا أرجئوا أمره حتى ينظر

والعقل يجزم في نحو هذا بعدم وقوع الاستدلال منهم لاستحالته حينئذ ، فكان ما أطبقوا عليه دليلا أي دليل على إيمان المقلد ، وقال : إن التقليد أن يسمع من نشأ بقلة جبل الناس يقولون للخلق رب خلقهم ، وخلق كل شيء من غير شريك له ، ويستحق العبادة عليهم ، فيجزم بذلك إجلالا لهم عن الخطأ ، وتحسينا للظن بهم ، فإذا تم جزمه بأن لم يجز نقيض ما أخبروا به ، فقد حصل واجب الإيمان ، وإن فاته الاستدلال لأنه غير مقصود لذاته بل للتوصل به للجزم وقد حصل .

وقال الإمام النووي : الآتي بالشهادتين مؤمن حقا ، وإن كان مقلدا على مذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بالتصديق بما جاء به ولم يشترط المعرفة بالدليل ، وقد تظاهرت بهذا الأحاديث الصحاح يحصل بمجموعها التواتر والعلم القطعي ، انتهى .

وبما تقرر تعلم أن النظر ليس بشرط في حصول المعرفة مطلقا ، وإلا لما وجدت بدونه لوجوب انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ، لكنها قد توجد فظهر أن النظر لا يتعين على كل أحد ، وإنما يتعين على من لا طريق له سواه ، بأن بلغته دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما بلغته دعوته ، وصدق به تصديقا جازما بلا تردد ، فمع صحة إيمانه بالاتفاق لا يأثم بترك النظر ، وإن كان ظاهر ما تقدم الإثم مع حصول الإيمان ، لأن المقصود الذي لأجله طلب النظر من المكلف وهو التصديق الجازم قد حصل بدون النظر فلا حاجة إليه ، نعم في رتبته انحطاط ، وربما كان متزلزل الإيمان فالحق أنه يأثم بترك النظر وإن حصل له الإيمان ، ومن ثم نقل بعضهم الإجماع على تأثيمه لأن جزمه حينئذ لا ثقة به ، إذ لو عرضت له شبهة عكرت عليه ، وصار مترددا بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال ، فإنه لا يفوت بذلك ، والله تعالى ولي التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية