الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون

مجيء حرف العطف في صدر هذه الآية يقتضي في علم البلاغة خصوصية لعطفها على ما قبلها ومزيد اتصالها بما قبلها فتعين إيضاح مناسبة موقعها . والظاهر أن المشركين كانوا من غرورهم يحسبون تصرفات الله كتصرفات الناس من الاندفاع إلى الانتقام عند الغضب اندفاعا سريعا ، ويحسبون الرسل مبعوثين لإظهار الخوارق ونكاية المعارضين لهم ، ويسوون بينهم وبين المشعوذين والمتحدين بالبطولة والعجائب ، فكانوا لما كذبوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - وركبوا رءوسهم ولم تصبهم بأثر ذلك مصائب من عذاب شامل أو موتان عام ازدادوا غرورا بباطلهم وإحالة لكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرسلا من قبل الله تعالى . وقد دلت آيات كثيرة من القرآن على هذا كقوله : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وقوله : يستعجلونك بالعذاب وقوله : فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون وقد بينا ذلك في سورة الأنعام وفي سورة الأنفال .

[ ص: 106 ] وكان المؤمنون ربما تمنوا نزول العذاب بالمشركين واستبطئوا مجيء النصر للنبيء - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه كما جاء في الحديث : أن المسلمين قالوا : ألا تستنصر . وربما عجب بعضهم من أن يرزق الله المشركين وهم يكفرون به . فلما جاءت آيات هذه السورة بقوارع التهديد للمشركين أعقبت بما يزيل شبهاتهم ويطمئن نفوس المؤمنين بما يجمعه قوله : ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم

وهو إجمال ينبئ بأن الله جعل نظام هذا العالم على الرفق بالمخلوقات واستبقاء الأنواع إلى آجال أرادها ، وجعل لهذا البقاء وسائل الإمداد بالنعم التي بها دوام الحياة ، فالخيرات المفاضة على المخلوقات في هذا العالم كثيرة ، والشرور العارضة نادرة ومعظمها مسبب عن أسباب مجعولة في نظام الكون وتصرفات أهله ، ومنها ما يأتي على خلاف العادة عند محل آجاله التي قدرها الله - تعالى - بقوله : لكل أمة أجل وقوله : لكل أجل كتاب

فهذه الجملة معطوفة على جملة إن الذين لا يرجون لقاءنا الآية ، فحيث ذكر عذابهم الذي هم آيلون إليه ناسب أن يبين لهم سبب تأخير العذاب عنهم في الدنيا لتكشف شبهة غرورهم وليعلم الذين آمنوا حكمة من حكم تصرف الله في هذا الكون . والقرينة على اتصال هذه الجملة بجملة إن الذين لا يرجون لقاءنا قوله في آخر هذه فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون

فبينت هذه الآية أن الرفق جعله الله مستمرا على عباده غير منقطع عنهم لأنه أقام عليه نظام العالم إذ أراد ثبات بنائه ، وأنه لم يقدر توازي الشر في هذا العالم بالخير لطفا منه ورفقا ، فالله لطيف بعباده ، وفي ذلك منة عظيمة عليهم ، وأن الذين يستحقون الشر لو عجل لهم ما استحقوه لبطل النظام الذي وضع عليه العالم .

والناس : اسم عام لجميع الناس ، ولكن لما كان الكلام على إبطال شبهة المشركين وكانوا المستحقين للشر كانوا أول من يتبادر من عموم الناس ، كما زاده تصريحا قوله : فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون

[ ص: 107 ] وقد جاء نظم الآية على إيجاز محكم بديع ، فذكر في جانب الشر يعجل الدال على أصل جنس التعجيل ولو بأقل ما يتحقق فيه معناه ، وعبر عن تعجيل الله الخير لهم بلفظ استعجالهم الدال على المبالغة في التعجيل بما تفيده زيادة السين والتاء لغير الطلب إذ لا يظهر الطلب هنا ، وهو نحو قولهم : استأخر واستقدم واستجلب واستقام واستبان واستجاب واستمتع واستكبر واستخفى وقوله - تعالى :واستغشوا ثيابهم . ومعناه : تعجلهم الخير ، كما حمله عليه في الكشاف للإشارة إلى أن تعجيل الخير من لدنه .

فليس الاستعجال هنا بمعنى طلب التعجيل لأن المشركين لم يسألوا تعجيل الخير ولا سألوه فحصل ، بل هو بمعنى التعجل الكثير ، كما في قول سلمي بن ربيعة :


وإذا العذارى بالدخان تقنعت واستعجلت نصب القدور فملت



( أي تعجلت ) ، وهو في هذا الاستعمال مثله في الاستعمال الآخر يتعدى إلى مفعول ، كما في البيت وكما في الحديث فاستعجل الموت

وانتصب استعجالهم على المفعولية المطلقة المفيدة للتشبيه ، والعامل فيه " يعجل " ، والمعنى : ولو يعجل الله للناس الشر كما يعجل لهم الخير كثيرا ، فقوله : استعجالهم مصدر مضاف إلى مفعوله لا إلى فاعله ، وفاعل الاستعجال هو الله - تعالى - كما دل عليه قوله : ولو يعجل الله

والباء في قوله : بالخير لتأكيد اللصوق ، كالتي في قوله - تعالى - : وامسحوا برءوسكم . وأصله : استعجالهم الخير ، فدلت المبالغة بالسين والتاء وتأكيد اللصوق على الامتنان بأن الخير لهم كثير ومكين . وقد كثر اقتران مفعول فعل الاستعجال بهذه الباء ولم ينبهوا عليه في مواقعه المتعددة . وسيجيء في النحل .

وقد جعل جواب لو قوله : لقضي إليهم أجلهم ، وشأن جواب لو أن يكون في حيز الامتناع ، أي وذلك ممتنع لأن الله قدر لآجال انقراضهم ميقاتا معينا ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون

[ ص: 108 ] والقضاء : التقدير .

والأجل : المدة المعينة لبقاء قوم . والمعنى : لقضي إليهم حلول أجلهم . ولما ضمن قضي معنى بلغ ووصل عدي بـ إلى . فهذا وجه تفسير الآية وسر نظمها ولا يلتفت إلى غيره في فهمها . وهذا المعنى مثل معنى قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم في سورة الأنعام .

وجملة فنذر الذين لا يرجون لقاءنا إلخ مفرعة على جملة ولو يعجل الله للناس إلى آخرها .

وقرأ الجمهور لقضي بالبناء للنائب ورفع أجلهم على أنه نائب الفاعل . وقرأه ابن عامر ويعقوب بفتح القاف والضاد ونصب أجلهم على أن في قضى ضميرا عائدا إلى اسم الجلالة في قوله : ولو يعجل الله للناس الشر إلخ .

وجملة فنذر الذين لا يرجون لقاءنا مفرعة على جملة لو وجوابها المفيدة انتفاء أن يعجل الله للناس الشر بانتفاء لازمه وهو بلوغ أجلهم إليهم ، أي فإذا انتفى التعجيل فنحن نذر الذين لا يرجون لقاءنا يعمهون ، أي نتركهم في مدة تأخير العذاب عنهم متلبسين بطغيانهم ، أي فرط تكبرهم وتعاظمهم .

والعمه : عدم البصر .

وإنما لم ينصب الفعل بعد الفاء لأن النصب يكون في جواب النفي المحض ، وأما النفي المستفاد من لو فحاصل بالتضمن ، ولأن شأن جواب النفي أن يكون مسببا على المنفي لا على النفي ، والتفريع هنا على مستفاد من النفي . وأما المنفي فهو تعجيل الشر فهو لا يسبب أن يترك الكافرين يعمهون ، وبذلك تعرف أن قوله : فنذر ليس معطوفا على كلام مقدر وإنما التقدير تقدير معنى لا تقدير إعراب ، أي فنترك المنكرين للبعث في ضلالهم استدراجا لهم .

وقوله : في طغيانهم يعمهون تقدم نظيره في قوله : ويمدهم في طغيانهم يعمهون في سورة البقرة . والطغيان : الكفر .

[ ص: 109 ] والإتيان بالموصولية في تعريف الكافرين للدلالة على أن الطغيان أشده إنكارهم البعث ، ولأنه صار كالعلامة عليهم كما تقدم آنفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية