الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين

هذا عطف غرض على غرض قصد به الانتقال إلى تقسيم فرق المتخلفين عن الجهاد من المنافقين وغيرهم وأنواع معاذيرهم ومراتبها في القبول . دعا إليه الإغلاظ [ ص: 288 ] في تقريع المتخلفين عن الجهاد نفاقا وتخذيلا للمسلمين ، ابتداء من قوله : يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ثم قوله : لو كان عرضا قريبا وكل ذلك مقصود به المنافقون .

ولأجل كون هذه الآية غرضا جديدا ابتدئت بذكر نزول سورة داعية إلى الإيمان والجهاد . والمراد بها هذه السورة ، أي سورة ( براءة ) ، وإطلاق اسم السورة عليها في أثنائها قبل إكمالها مجاز متسع فيه كإطلاق الكتاب على القرآن في أثناء نزوله في نحو قوله : ذلك الكتاب لا ريب فيه وقوله : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فهذا الوصف وصف مقدر شبيه بالحال المقدرة .

وابتدئ بذكر المتخلفين من المنافقين بقوله : استأذنك أولوا الطول منهم

والسورة طائفة معينة من آيات القرآن لها مبدأ ونهاية وقد مضى الكلام عليها آنفا وقبيل هذا .

ولما كانت السورة ألفاظا وأقوالا صح بيانها ببعض ما حوته وهو الأمر بالإيمان والجهاد فقوله : أن آمنوا بالله تفسير للسورة و ( أن ) فيه تفسيرية كالتي في قوله - تعالى - حكاية عن عيسى ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ويجوز تفسير الشيء ببعضه شبه بدل البعض من الكل .

وليس المراد لفظ آمنوا وما عطف عليه بل ما يراد ، فهما مثل قوله : يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله الآيات ، وقوله : لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم

و ( الطول ) السعة في المال قال - تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات وقد تقدم . والاقتصار على الطول يدل على أن أولي الطول مراد بهم من له قدرة على الجهاد بصحة البدن . فبوجود الطول انتفى عذرهم إذ من لم يكن قادرا ببدنه لا ينظر إلى كونه ذا طول كما يدل عليه قوله بعدولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج

[ ص: 289 ] والمراد بأولي الطول أمثال عبد الله بن أبي ابن سلول ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس .

وعطف وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين على ( استأذنك ) لما بينهما من المغايرة في الجملة بزيادة في المعطوف لأن الاستئذان مجمل ، وقولهم المحكي فيه بيان ما استأذنوا فيه وهو القعود . وفي نظمه إيذان بتلفيق معذرتهم وأن الحقيقة هي رغبتهم في القعود ولذلك حكي قولهم بأن ابتدئ بـ ( ذرنا ) المقتضي الرغبة في تركهم بالمدينة . وبأن يكونوا تبعا للقاعدين الذين فيهم العجز والضعفاء والجبناء ، لما تؤذن به كلمة ( مع ) من الإلحاق والتبعية .

وقد تقدم أن ( ذر ) أمر من فعل ممات وهو ( وذر ) استغنوا عنه بمرادفه وهو ( ترك ) في قوله - تعالى : وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا في سورة الأنعام .

التالي السابق


الخدمات العلمية