الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب فضل الصلاة على الميت وما يرجى له بكثرة الجمع

                                                                                                                                            1414 - ( عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان ، قيل : وما القيراطان ؟ قال : مثل الجبلين العظيمين } متفق عليه .

                                                                                                                                            ولأحمد ومسلم " حتى توضع في اللحد " بدل " تدفن " وفيه دليل فضيلة اللحد على الشق ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            وفي الباب عن عائشة عند البخاري . وعن ثوبان عند مسلم . وعن عبد الله بن مغفل عند النسائي . وعن أبي سعيد عند أحمد . وعن ابن مسعود عند أبي عوانة ، قال الحافظ : وأسانيده هذه صحاح . وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه . وعن ابن مسعود عند البيهقي في الشعب وأبي عوانة . وعن أنس عند الطبراني في الأوسط وعن واثلة بن الأسقع عند ابن عدي . وعن حفصة عند حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال . قال الحافظ : وفي كل من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف . قوله : ( من شهد ) في رواية للبخاري : " من شيع " وفي أخرى له : " من تبع " وفي رواية لمسلم : { من خرج مع جنازة من بيتها ثم تبعها حتى تدفن } فينبغي أن تكون هذه الرواية مقيدة لبقية الروايات ، فالتشييع والشهادة والاتباع يعتبر في كونها محصلة للأجر المذكور في الحديث أن يكون ابتداء الحضور من بيت الميت ويدل على ذلك ما وقع في رواية لأبي هريرة عند البزار بلفظ : " من أهلها " وما عند أحمد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ : " فمشى معها من أهلها " ومقتضاه أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة ، وبذلك جزم الطبري . قال الحافظ : والذي يظهر لي أن القيراط يحصل لمن صلى فقط ; لأن كل ما قبل الصلاة [ ص: 66 ] وسيلة إليها ، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع وصلى . واستدل بما عند مسلم بلفظ : { من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط } وبما عند أحمد عن أبي هريرة { ومن صلى ولم يتبع فله قيراط } فدل على أن الصلاة تحصل القيراط وإن لم يقع اتباع

                                                                                                                                            قال : ويمكن أن يحمل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة انتهى . وهكذا الخلاف في قيراط الدفن هل يحصل بمجرد الدفن من دون اتباع أو لا بد منه . قوله : ( حتى يصلى عليها ) قال في الفتح : اللام للأكثر مفتوحة .

                                                                                                                                            وفي بعض الروايات بكسرها ، ورواية الفتح محمولة عليها ، فإن حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصل له انتهى .

                                                                                                                                            قال ابن المنير : إن القيراط لا يحصل إلا لمن اتبع وصلى أو اتبع وشيع وحضر الدفن ، لا لمن اتبع مثلا وشيع ثم انصرف بغير صلاة ، وذلك ; لأن الاتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين : إما الصلاة ، وإما الدفن ، فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المترتب على المقصود ، وإن كان أن يحصل لذلك فضل ما يحتسب

                                                                                                                                            وقد روى سعيد بن منصور عن مجاهد أنه قال : اتباع الجنازة أفضل النوافل .

                                                                                                                                            وفي رواية عبد الرزاق عنه " اتباع الجنازة أفضل من صلاة التطوع " قوله : ( فله قيراط ) بكسر القاف . قال في الفتح : قال الجوهري : القيراط نصف دانق ، قال : والدانق سدس الدرهم ، فهو على هذا نصف سدس الدرهم كما قال ابن عقيل ، وذكر القيراط تقريبا للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته ، فضرب له المثل بما يعلم ، ثم لما كان مقدار القيراط المتعارف حقيرا ، نبه على عظم القيراط الحاصل لمن فعل ذلك فقال : " مثل أحد " كما في بعض الروايات ، وفي أخرى " أصغرها مثل أحد " وفي حديث الباب " مثل الجبلين العظيمين " قوله : ( ومن شهدها حتى تدفن ) ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن وهو أصح الأوجه عند الشافعية وغيرهم . وقيل يحصل بمجرد الوضع في اللحد

                                                                                                                                            وقيل عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب . وقد وردت الأخبار بكل ذلك ، فعند مسلم : " حتى يفرغ منها " وعنده في أخرى : " حتى توضع في اللحد " وعنده أيضا : " حتى توضع في القبر " وعند أحمد : " حتى يقضى قضاؤها " وعند الترمذي : " حتى يقضى دفنها " وعند أبي عوانة : " حتى يسوى عليها " أي التراب . وقيل : يحصل القيراط بكل من ذلك ولكن يتفاوت . والظاهر أنها تحمل الروايات المطلقة عن الفراغ من الدفن وتسوية التراب بالمقيدة بهما

                                                                                                                                            قوله : ( مثل الجبلين ) في رواية " مثل أحد " وفي رواية للنسائي " كل واحد منهما أعظم من أحد " وعند مسلم " أصغرهما مثل أحد " وعند ابن عدي " أثقل من أحد " فأفادت هذه الرواية بيان وجه التمثيل بجبل أحد ، وأن المراد به زنة الثواب المترتب على ذلك . قوله : ( حتى توضع في اللحد ) استدل به المصنف على أن اللحد أفضل ، وسيأتي الكلام على ذلك . [ ص: 67 ]

                                                                                                                                            1415 - ( وعن مالك بن هبيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من مسلم يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين ، يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له فكان مالك بن هبيرة يتحرى إذا قل أهل الجنازة أن يجعلهم ثلاثة صفوف } . رواه الخمسة إلا النسائي ) .

                                                                                                                                            1416 - ( وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم { : ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه } رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            1417 - ( وعن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا ، إلا شفعهم الله فيه } رواه أحمد ومسلم وأبو داود ) .

                                                                                                                                            1418 - ( وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أبيات من جيرانه الأدنين إلا قال الله تعالى : قد قبلت علمهم فيه وغفرت له ما لا يعلمون } رواه أحمد ) . حديث مالك بن هبيرة في إسناده محمد بن إسحاق ، رواه عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد عن مالك وفيه مقال معروف إذا عنعن . وقد حسن الحديث الترمذي . وقال : رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق . وروى إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق هذا الحديث ، وأدخل بين مرثد ومالك بن هبيرة رجلا ، ورواية هؤلاء أصح عندنا . قال : وفي الباب عن عائشة وأم حبيبة وأبي هريرة ، ثم ذكر حديث عائشة بنحو اللفظ الذي ذكره المصنف من طريق ابن أبي عمر عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب . وعن أحمد بن منيع وعلي بن حجر عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة ثم قال : حسن صحيح ، وقد وقفه بعضهم ولم يرفعه . قال النووي : من [ ص: 68 ] رفعه ثقة ، وزيادة الثقة مقبولة وحديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن ماجه . وحديث أنس أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعا . ولأحمد من حديث أبي هريرة نحوه وقال : ثلاثة بدل أربعة .

                                                                                                                                            وفي إسناده رجل لم يسم ، وله شاهد من مراسيل بشير بن كعب ، أخرجه أبو مسلم الكجي . قوله : ( يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف ) فيه دليل على أن من صلى عليه ثلاثة صفوف من المسلمين غفر له ، وأقل ما يسمى صفا رجلان ، ولا حد لأكثره قوله : ( يبلغون مائة ) فيه استحباب تكثير جماعة الجنازة ويطلب بلوغهم إلى هذا العدد الذي يكون من موجبات الفوز ، وقد قيد ذلك بأمرين : الأول : أن يكونوا شافعين فيه : أي مخلصين له الدعاء ، سائلين له المغفرة . الثاني : أن يكونوا مسلمين ليس فيهم من يشرك بالله شيئا كما في حديث ابن عباس

                                                                                                                                            قال القاضي : قيل : هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا على ذلك ، فأجاب كل واحد عن سؤاله . قال النووي : ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به ، ثم بقبول شفاعة أربعين فأخبر به ، ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم فأخبر به . قال : ويحتمل أيضا أن يقال : هذا مفهوم عدد ، ولا يحتج به جماهير الأصوليين ، فلا يلزم من الأخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك ، وكذا في الأربعين ثلاثة صفوف ، وحينئذ كل الأحاديث معمول بها ، وتحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين قوله : ( أربعة أبيات ) ليس عند ابن حبان والحاكم لفظ أبيات . وفيه أن شهادة أربعة من جيران الميت من موجبات مغفرة الله تعالى له

                                                                                                                                            ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري وغيره عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة ، فقلنا : وثلاثة ؟ قال : وثلاثة ، فقلنا : واثنان ؟ قال : واثنان ، ثم لم نسأله عن الواحد } قال الزين بن المنير : إنما لم يسأله عمر عن الواحد استبعادا منه أن يكتفى في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب . قال الداودي : المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة ; لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم ، ولا من بينه وبين الميت عداوة ; لأن شهادة العدو لا تقبل . وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث أنس قال : { مر بجنازة فأثنوا عليها خيرا ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : وجبت ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرا ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : وجبت ، فقال عمر : ما وجبت ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض } هذا لفظ البخاري وفي مسلم " وجبت وجبت وجبت ثلاثا في الموضعين " . قال النووي : قال بعضهم : معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل وكان ذلك مطابقا للواقع فهو من أهل الجنة . فإن كان غير مطابق فلا ، وكذا عكسه . قال : والصحيح أنه على [ ص: 69 ] عمومه وإن مات فألهم الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان دليلا على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا ، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة ، وهذا الإلهام يستدل به على تعيينها وبهذا تظهر فائدة الثناء انتهى . قال الحافظ : وهذا في جانب الخير واضح .

                                                                                                                                            وأما في جانب الشر فظاهر الأحاديث أنه كذلك ، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره ، وقد وقع في رواية من حديث أنس المتقدم { إن لله عز وجل ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر } .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية