الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 527 ] ثم دخلت سنة ست وستين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في المحرم منها قدم الرشيد من بلاد الروم ، فدخل بغداد في أبهة عظيمة ، ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها أخذ المهدي البيعة لولده هارون من بعد موسى الهادي ، ولقب هارون بالرشيد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها سخط المهدي على يعقوب بن داود ، وكان قد حظي عنده حتى استوزره ، وارتفعت منزلته في الوزارة حتى فوض إليه جميع أمر الخلافة ، وفي ذلك يقول بشار بن برد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بني أمية هبوا طال نومكم إن الخليفة يعقوب بن داود     ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خليفة الله بين الدف والعود

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلم تزل السعاة والوشاة بينه وبين الخليفة حتى أخرجوه عليه ، وكلما سعوا به إليه ، دخل إليه فأصلح أمره عنده ، حتى وقع من أمره ما سأذكره; وهو أنه دخل ذات يوم على المهدي في مجلس عظيم قد فرش بأنواع الفرش وألوان الحرير ، وحول ذلك المكان أشجار مزهرة بأنواع الأزاهير ، فقال : يا يعقوب ، [ ص: 528 ] كيف رأيت مجلسنا هذا؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، ما رأيت شيئا أحسن منه . فقال : هو لك بما فيه ، وهذه الجارية ليتم بها سرورك ، ولي إليك حاجة أحب أن تقضيها لي . قال : وما هي يا أمير المؤمنين؟ فقال : حتى تقول : نعم . فقلت : يأمر أمير المؤمنين ، وعلي السمع والطاعة . فقال : آلله؟ فقلت : آلله . قال : وحياة رأسي . قلت : وحياة رأسك . فقال : ضع يدك على رأسي وقل ذلك . ففعلت ، فقال : إن هاهنا رجلا من العلويين أحب أن تكفينيه - والظاهر أنه الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب - فقلت : نعم . فقال : وعجل علي . ثم أمر بتحويل ما في ذلك المجلس إلى منزلي ، وأمر لي بمائة ألف درهم وتلك الجارية ، فما فرحت بشيء فرحي بها ، فلما صارت إلى منزلي حجبتها من جانب الدار في الخدر ، فأمرت بذلك العلوي فجيء به ، فجلس إلي فتكلم ، فما رأيت أعقل منه ولا أفهم ، ثم قال لي : يا يعقوب ، تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقلت : لا والله ، ولكن اذهب حيث شئت . فقال : إني أختار بلاد كذا وكذا . فقلت : اذهب كيف شئت ، ولا يظهرن عليك المهدي فتهلك وأهلك . فخرج من عندي وجهزت معه رجلين يسفرانه ويوصلانه بعض البلاد ، ولم أشعر بأن الجارية قد أحاطت علما بما جرى ، وبعثت بخادمها إلى المهدي فأعلمه بذلك ، وقالت له : هذا الذي آثرته بي قد فعل كذا وكذا . فغضب المهدي وبعث إلى تلك الطريق ، فردوا العلوي ، فحبسه عنده في بيت من دار [ ص: 529 ] الخلافة ، وأرسل إلي في اليوم الثاني ، فذهبت وأنا لا أستشعر أمر العلوي ، فلما دخلت عليه قال : ما فعل العلوي؟ قلت : مات . قال : آلله؟ قلت : آلله . قال : فضع يدك على رأسي ، واحلف بحياته . ففعلت ، فقال : يا غلام أخرج ما في هذا البيت . فخرج العلوي ، فأسقط في يدي ، فقال المهدي : دمك لي حلال . ثم أمر به فألقي في بئر في المطبق . قال يعقوب : فكنت في مكان لا أسمع فيه ولا أبصر ، فذهب بصري ، وطال شعري حتى صرت مثل البهائم ، ثم مضت علي مدد متطاولة ، فبينما أنا ذات يوم إذ دعيت فخرجت من البئر التي في ذلك المطبق ، فقيل لي : سلم على أمير المؤمنين . فسلمت وأنا أظنه المهدي ، فلما ذكرت المهدي في كلامي ، قال رحم الله المهدي . فقلت : الهادي؟ فقال : رحم الله الهادي . فقلت : الرشيد؟ قال : نعم . فقلت : يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما حل بي من الضعف والعلة ، فإن رأيت أن تطلقني . فقال : أين تريد تذهب؟ قلت : مكة . فقال : اذهب راشدا . فسار إلى مكة ، فما لبث بها إلا قليلا حتى مات ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان يعقوب هذا يعظ المهدي في تعاطيه شرب النبيذ بين يديه ، وكثرة سماع الغناء ، ويلومه على ذلك ويقول : ما على هذا استوزرتني ، ولا على هذا صحبتك ، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الحرام يشرب عندك النبيذ ويسمع السماع بين يديك؟ فيقول : فقد سمع عبد الله بن جعفر . فقال : إن ذلك لم يكن من حسناته ، ولو كان هذا قربة لكان كلما داوم عليه العبد كان [ ص: 530 ] أفضل له .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذلك يقول بعض الشعراء :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فدع عنك يعقوب بن داود     جانبا وأقبل على صهباء طيبة النشر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ذهب المهدي إلى قصره المسمى بقصر السلام بعيساباذ - بني له بالآجر بعد القصر الأول الذي بناه باللبن - فسكنه وضرب هناك الدراهم والدنانير .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن ، ولم يفعل هذا قبل هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان ، وقد جعل على القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة رحمهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد عامل الكوفة ، ولم يكن في هذه السنة صائفة; للهدنة التي كانت بين الرشيد وبين الروم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 531 ] وفيها توفي صدقة بن عبد الله السمين ، وأبو الأشهب العطاردي ، وأبو بكر النهشلي ، وعفير بن معدان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية