الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي من الأعيان

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إبراهيم بن أدهم ، أحد مشاهير العباد ، ومن أكابر من له همة عالية من العباد ، وداود الطائي ، أحد أئمة الصوفية ، وزهير بن محمد ، ويزيد بن إبراهيم التستري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأما إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر ، أبو إسحاق التميمي ، ويقال : العجلي . فهو أحد الزهاد ، أصله من بلخ . وسكن الشام ، ودخل دمشق ، وروى الحديث عن أبيه ، والأعمش ، ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة ، وأبي إسحاق السبيعي ، وخلق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحدث عنه خلق منهم; بقية ، والثوري ، وأبو إسحاق الفزاري ، ومحمد بن حمير ، وحكى عنه الأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الجزري ، عن الثوري ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : [ ص: 495 ] دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي جالسا ، فقلت : يا رسول الله ، إنك تصلي جالسا ، فما أصابك؟ قال : " الجوع يا أبا هريرة " . قال : فبكيت ، فقال : " لا تبك; فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن طريق بقية ، عن إبراهيم بن أدهم ، حدثني أبو إسحاق الهمداني ، عن عمارة بن غزية ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الفتنة تجيء فتنسف العباد نسفا ، وينجو العالم منها بعلمه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال النسائي : هو ثقة مأمون ، أحد الزهاد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري في " رسالته " أن إبراهيم بن أدهم كان من أبناء الملوك ، فبينما هو يتصيد إذ أتبع ثعلبا أو أرنبا ، فهتف به هاتف من قربوس سرجه : ألهذا خلقت أم بهذا أمرت؟ فنزل عن فرسه وجاء إلى راعي غنم لأبيه ، فأخذ جبة من صوف فلبسها ، وأعطاه فرسه ولباسه وما كان معه ، وذهب في البادية ، فدخل مكة ، وصحب الثوري ، والفضيل بن [ ص: 496 ] عياض ، ودخل الشام ومات بها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يأكل من عمل يده ، مثل الحصاد ، وحفظ البساتين ، وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال القشيري : وإنه رأى في البادية رجلا علمه اسم الله الأعظم ، فدعا به بعده ، فرأى الخضر ، فقال : إنما علمك أخي داود اسم الله الأعظم . ثم ساقه القشيري بإسناد ضعيف لا يصح . ورواها ابن عساكر أيضا من وجه آخر ضعيف ، وفيه أنه قال : إن إلياس هو علمك الاسم الأعظم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال القشيري : وكان إبراهيم بن أدهم كبير الشأن في باب الورع ، ويحكى عنه أنه قال : أطب مطعمك ، ولا عليك أن لا تقوم الليل ، وتصوم النهار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : كان أكثر دعائه : اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقيل لإبراهيم بن أدهم : إن اللحم قد غلا . فقال : أرخصوه . أي لا تشتروه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : هتف به الهاتف قائلا له من فوقه : يا إبراهيم ، ما هذا [ ص: 497 ] العبث؟ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ المؤمنون : 115 ] . اتق الله ، وعليك بالزاد ليوم الفاقة . قال : فنزل عن دابته ، ورفض الدنيا ، وأخذ في عمل الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن عساكر - بإسناد فيه نظر - عن ابتداء أمر إبراهيم بن أدهم قال : بينما أنا يوما في منظرة لي ببلخ ، وإذا بشيخ حسن قد استظل بفيئها ، فأخذ بمجامع قلبي ، فأمرت غلامي ، فطلبه فدخل ، فعرضت عليه الطعام ، فأبى ، فقلت : من أين أقبلت؟ قال : من وراء النهر . قلت : أين تريد؟ قال : الحج . قلت : في هذا الوقت؟ - وكان أول يوم من عشر ذي الحجة أو ثانيه - فقال : يفعل الله ما يشاء . فقلت : الصحبة . قال : إن أحببت ذلك فموعدك الليل . فلما كان الليل جاءني فقال : قم بسم الله . فأخذت ثياب سفري ، وسرنا نمشي كأنما الأرض تجذب من تحتنا ، ونحن نمر على البلدان ، ونقول هذه فلانة ، هذه فلانة . فإذا كان الصباح فارقني ويقول : موعدك الليل . فإذا كان الليل جاءني ، فانتهينا إلى المدينة النبوية ، فزرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم سرنا إلى مكة ، فجئناها ليلا ، فقضينا الحج مع الناس ، ثم رجعنا إلى الشام ، فزرنا بيت المقدس ، وقال : إني عازم على المقام بالشام . ورجعت أنا إلى بلدي بلخ أسير سير الضعفاء ، حتى رجعت إليها ، ولم أسأله عن اسمه ، وكان ذلك أول أمري . وروي من وجه آخر فيه نظر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حاتم الرازي ، عن أبي نعيم ، عن سفيان الثوري قال : كان [ ص: 498 ] إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم الخليل ، ولو كان في الصحابة لكان رجلا فاضلا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال عبد الله بن المبارك : كان إبراهيم رجلا فاضلا ، له سرائر ، وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من عمله ، ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال بشر بن الحارث الحافي : أربعة رفعهم الله بطيب المطعم; إبراهيم بن أدهم ، وسليمان الخواص ، ووهيب بن الورد ، ويوسف بن أسباط .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن عساكر من طريق معاوية بن حفص قال : إنما سمع إبراهيم بن أدهم من منصور حديثا ، فأخذ به ، فساد أهل زمانه ، قال : حدثنا منصور ، عن ربعي بن حراش قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس . قال : " إذا أردت أن يحبك الله فأبغض الدنيا ، وإذا أردت أن يحبك الناس فما كان عندك من فضولها فانبذه إليهم " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو الربيع ، عن إدريس قال : جلس إبراهيم بن أدهم إلى بعض العلماء فجعلوا يتذاكرون الحديث وإبراهيم ساكت ، ثم قال : حدثنا منصور . ثم سكت ، فلم ينطق بحرف حتى قام من ذلك المجلس ، فعاتبه بعض أصحابه في ذلك ، فقال : إني لأخشى مضرة ذلك المجلس [ ص: 499 ] في قلبي إلى هذا اليوم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال رشدين بن سعد : مر إبراهيم بن أدهم بالأوزاعي ، وحوله حلقة فقال : لو أن هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم . فقام الأوزاعي وتركهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال إبراهيم بن بشار : قيل لابن أدهم : لم لا تكتب الحديث؟ فقال : إني مشغول بثلاث; بالشكر على النعم ، وبالاستغفار من الذنوب ، وبالاستعداد للموت . ثم صاح وغشي عليه ، فسمعوا هاتفا يقول : لا تدخلوا بيني وبين أوليائي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حنيفة يوما لإبراهيم بن أدهم : قد رزقت من العبادة شيئا صالحا ، فليكن العلم من بالك; فإنه رأس العبادة وقوام الدين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال إبراهيم بن أدهم : ماذا أنعم الله على الفقراء! لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ، ولا عن حج ، ولا عن جهاد ، ولا عن صلة رحم ، إنما يسأل هؤلاء المساكين . يعني الأغنياء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال شقيق بن إبراهيم : لقيت ابن أدهم بالشام ، وقد كنت رأيته بالعراق وبين يديه ثلاثون شاكريا . فقلت له : تركت خراسان ، وخرجت من [ ص: 500 ] نعمتك؟ فقال : قد تهنيت بالعيش هاهنا ، أفر بديني من شاهق إلى شاهق ، فمن يراني يقول : موسوس . أو : حمال . أو : ملاح . ثم قال : بلغني أنه يؤتى بالفقير يوم القيامة ، فيوقف بين يدي الله ، عز وجل ، فيقول له : يا عبدي ، ما لك لم تحج؟ فيقول : يا رب لم تعطني شيئا أحج به . فيقول الله ، عز وجل : صدق عبدي ، اذهبوا به إلى الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعن إبراهيم بن أدهم قال : أقمت بالشام أربعا وعشرين سنة لم أجئ لجهاد ولا رباط ، إنما جئت لأشبع من خبز الحلال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال إبراهيم بن أدهم : الحزن حزنان; حزن لك وحزن عليك; فحزنك على الآخرة وخيرها لك ، وحزنك على الدنيا وزينتها عليك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال : الزهد ثلاثة ، واجب ، ومستحب ، وزهد سلامة ، فالزهد في الحرام واجب ، والزهد عن الشهوات الحلال مستحب ، والزهد عن الشبهات سلامة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان هو وأصحابه يمنعون أنفسهم الحمام والماء البارد والحذاء ، ولا يجعلون في ملحهم أبزارا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان إذا جلس على سفرة فيها طعام طيب رمى بطيبها إلى أصحابه ، وأكل [ ص: 501 ] هو الخبز والزيتون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال إبراهيم بن أدهم : قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع ، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال له رجل : هذه جبة أحب أن تقبلها مني . فقال : إن كنت غنيا قبلتها ، وإن كنت فقيرا لم أقبلها . قال : أنا غني . قال : كم عندك؟ قال : ألفان . قال : تود أن تكون أربعة آلاف؟ قال : نعم . قال : فأنت فقير لا أقبلها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال له رجل : لو تزوجت؟! فقال : لو أمكنني أن أطلق نفسي لطلقتها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومكث بمكة خمسة عشر يوما لا شيء معه ، فلم يكن له زاد سوى الرمل بالماء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وصلى بوضوء واحد خمس عشرة صلاة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأكل يوما على حافة الشريعة كسيرات مبلولة ، وضعها بين يديه أبو يوسف الغسولي ، ثم قام فشرب من الشريعة ، ثم جاء فاستلقى على قفاه ، وقال : يا أبا يوسف ، لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش . فقال أبو يوسف : طلب القوم الراحة [ ص: 502 ] والنعيم فأخطئوا الطريق المستقيم . فتبسم إبراهيم وقال : من أين لك هذا الكلام؟

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبينما هو يوما بالمصيصة في جماعة من أصحابه إذ جاءه راكب فقال : أيكم إبراهيم بن أدهم؟ فأرشد إليه ، فقال : يا سيدي ، أنا غلامك ، وإن أباك قد مات وترك مالا هو عند القاضي ، وقد جئتك بعشرة آلاف درهم لتنفقها عليك إلى بلخ ، وفرس وبغلة . فسكت إبراهيم طويلا ، ثم رفع رأسه فقال : إن كنت صادقا فالدراهم والفرس والبغلة لك ، ولا تخبر به أحدا . ويقال إنه ذهب بعد ذلك إلى بلخ ، وأخذ المال من الحاكم ، وجعله كله في سبيل الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان معه بعض أصحابه ، فمكثوا شهرين لم يحصل لهم شيء يأكلونه ، فقال له إبراهيم : ادخل إلى هذه الغيضة . وكان ذلك في يوم شات . قال : فدخلت فوجدت شجرة عليها خوخ كثير ، فملأت منه جرابي ، ثم خرجت ، فقال : ما معك؟ فقلت : خوخ . فقال : يا ضعيف اليقين ، لو صبرت لوجدت رطبا جنيا ، كما رزقت مريم بنت عمران .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وشكا إليه بعض أصحابه الجوع ، فصلى ركعتين ، فإذا حوله دنانير كثيرة ، فقال لصاحبه : خذ منها دينارا . فأخذه واشترى لهم به طعاما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكروا أنه كان يعمل بالفاعل ، ثم يذهب فيشتري الخبز الأبيض والزبد ، وتارة الشواء والجوذابات ، والخبيص فيطعمه أصحابه وهو صائم ، فإذا أفطر [ ص: 503 ] يأكل من رديء الطعام ، ويحرم نفسه المطعم الطيب ليؤثر به الناس; تأليفا لهم وتحببا وتوددا إليهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأضاف الأوزاعي إبراهيم بن أدهم ، فقصر إبراهيم في الأكل ، فقال : ما لك قصرت؟ فقال : لأنك قصرت في الطعام . ثم عمل إبراهيم طعاما كثيرا ، ودعا الأوزاعي ، فقال الأوزاعي : أما تخاف أن يكون سرفا؟ فقال : لا ، إنما السرف ما كان في معصية الله ، فأما ما أنفقه الرجل على إخوانه ، فهو من الدين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر أنه حصد مرة بعشرين دينارا ، فجلس مرة عند حجام هو وصاحب له ليحلق رءوسهم ويحجمهم ، فكأنه تبرم بهم ، واشتغل عنهم بغيرهم ، فتأذى صاحبه من ذلك ، ثم أقبل عليهم الحجام فقال : ماذا تريدون؟ قال إبراهيم : أريد أن تحلق رأسي وتحجمني . ففعل ذلك ، فأعطاه إبراهيم تلك العشرين دينارا ، وقال : أردت أن لا تحقر بعدها فقيرا أبدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال مضاء بن عيسى : ما فاق إبراهيم أصحابه بصوم ولا صلاة ، ولكن بالصدقة والسخاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان إبراهيم بن أدهم يقول : فروا من الناس كفراركم من الأسد الضاري ، ولا تخلفوا عن الجمعة والجماعة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 504 ] وكان إذا سافر مع أحد من أصحابه يخدمه إبراهيم ، وكان إذا حضر في مجلس فكأنما على رءوسهم الطير; هيبة له وإجلالا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وربما تسامر هو وسفيان الثوري في الليلة التامة إلى الصباح ، وكان الثوري يتحرز معه في الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ورأى رجلا ، فقيل له : هذا قاتل خالك . فذهب إليه وسلم عليه وأهدى له ، وقال : بلغني أن الرجل لا يبلغ درجة اليقين حتى يأمنه عدوه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال له رجل : طوبى لك; أفنيت عمرك في العبادة ، وتركت الدنيا والزوجات . فقال : ألك عيال؟ قال : نعم . فقال : لروعة الرجل بعياله - يعني في بعض الأحيان من الفاقة - أفضل من عبادة كذا وكذا سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ورآه الأوزاعي ببيروت وعلى عنقه حزمة حطب فقال : يا أبا إسحاق ، إن إخوانك يكفونك هذا . فقال له : اسكت يا أبا عمرو ، فقد بلغني أنه إذا وقف الرجل موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج إبراهيم بن أدهم من بيت المقدس ، فمر بطبرية ، فأخذته المسلحة في الطريق فقالوا : أنت عبد؟ قال : نعم . قالوا : آبق؟ قال : نعم . فسجنوه . فبلغ أهل بيت المقدس خبره ، فجاءوا برمتهم إلى نائب طبرية فقالوا : علام [ ص: 505 ] سجنت إبراهيم بن أدهم؟ قال : ما سجنته . قالوا : بلى ، هو في سجنك . فاستحضره ، فقال : علام حبست؟ فقال : سل المسلحة ، قالوا : أنت عبد؟ قلت : نعم ، وأنا عبد الله . قالوا : وأنت آبق؟ قلت : نعم ، وأنا عبد آبق من ذنوبي . فخلى سبيله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكروا أنه مر مع رفقة ، فإذا الأسد على الطريق ، فتقدم إليه إبراهيم بن أدهم فقال له : يا قسورة ، إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به ، وإلا فعودك على بدئك . قالوا : فولى السبع ذاهبا يضرب بذنبه ، ثم أقبل علينا إبراهيم فقال : قولوا : اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام ، واكنفنا بركنك الذي لا يرام ، وارحمنا بقدرتك علينا ، ولا نهلك وأنت رجاؤنا ، يا الله ، يا الله ، يا الله . قال خلف بن تميم : فما زلت أقولها منذ سمعتها فما عرض لي لص ولا غيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي لهذا شواهد من وجوه أخر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروي أنه كان يصلي ذات ليلة ، فجاءه أسد ثلاثة ، فتقدم إليه أحدهم ، فشم ثيابه ، ثم ذهب ، فربض قريبا منه ، وجاء الثاني ففعل مثل كذلك ، وجاء الثالث ففعل كذلك ، واستمر إبراهيم في صلاته ، فلما كان وقت السحر قال لهم : إن كنتم أمرتم بشيء فهلم ، وإلا فانصرفوا . فانصرفوا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وصعد مرة جبلا بمكة ومعه جماعة ، فقال لهم : لو أن وليا من أولياء الله [ ص: 506 ] قال لجبل : زل . لزال . فتحرك الجبل تحته ، فركله برجله وقال : اسكن ، فإنما ضربتك مثلا لأصحابي . وفي رواية : وكان الجبل أبا قبيس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وركب مرة سفينة ، فأخذهم الموج ذات يوم من كل مكان ، فلف إبراهيم رأسه بكسائه ، واضطجع ، وعج أصحاب السفينة بالضجيج ، وأيقظوه ، وقالوا : ألا ترى ما نحن فيه من الشدة؟ فقال : ليس هذه شدة ، إنما الشدة الحاجة إلى الناس . ثم قال : اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك . فصار البحر كأنه قدح زيت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان قد طالبه صاحب السفينة بأجرة حمله دينارين ، وألح عليه ، فخرج معه مرة إلى جزيرة في البحر ، فقال : أين الديناران . فتوضأ إبراهيم ، وصلى ركعتين ودعا ، فإذا ما حوله قد ملئ دنانير ، فقال له خذ حقك ، ولا تزد ، ولا تذكر هذا لأحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعن حذيفة المرعشي قال : أويت أنا وإبراهيم بن أدهم إلى مسجد خراب بالكوفة ، وكان قد مضى علينا أيام لم نأكل فيها شيئا ، فقال لي : كأنك جائع . قلت : نعم . فأخذ رقعة فكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، أنت المقصود إليه بكل حال ، المشار إليه بكل معنى :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر أنا جائع أنا نائع أنا عاري [ ص: 507 ]     هي ستة وأنا الضمين لنصفها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فكن الضمين لنصفها يا باري     مدحي لغيرك وهج نار خضتها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأجر عبيدك من دخول النار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال لي : اخرج ولا تعلق قلبك بغير الله ، وادفع هذه الرقعة لأول رجل تلقاه . فخرجت فإذا رجل على بغلة ، فدفعتها إليه ، فلما قرأها بكى ، ودفع إلي ستمائة دينار وانصرفت فسألت رجلا : من هذا الذي على البغلة؟ فقال : هو رجل نصراني . فجئت إبراهيم ، فأخبرته فقال : الآن يجيء فيسلم . فما كان غير قريب حتى جاء ، فأكب على رأس إبراهيم ، وأسلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان إبراهيم يقول : دارنا أمامنا ، وحياتنا بعد وفاتنا ، فإما إلى الجنة ، وإما إلى النار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان إبراهيم يقول : مثل لبصر قلبك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك ، وانظر كيف تكون ، ومثل له هول المطلع ومساءلة منكر ونكير ، وانظر كيف تكون ، ومثل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب ، وانظر كيف تكون . ثم صرخ صرخة خر مغشيا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ونظر إلى رجل من أصحابه يضحك فقال له : لا تطمع فيما لا يكون ، ولا تيأس مما يكون . فقيل له : كيف هذا يا أبا إسحاق؟ فقال : لا تطمع في البقاء والموت يطلبك ، فكيف يضحك من يموت ولا يدري أين يذهب; إلى [ ص: 508 ] جنة أم إلى نار؟! ولا تيأس مما يكون ، الموت يأتيك صباحا أو مساء . ثم قال : أوه أوه . ثم خر مغشيا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يقول : ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ، ولا نسأل كشفه من ربنا . ثم يقول : ثكلت عبدا أمه أحب الدنيا ، ونسي ما في خزائن مولاه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال : إذا كنت بالليل نائما ، وبالنهار هائما ، وبالمعاصي دائما ، فكيف يرضى من هو بأمرك قائما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ورآه بعض أصحابه بمسجد بيروت وهو يبكي ، ويضرب بيديه على رأسه ، فقال : ما يبكيك؟ فقال ذكرت يوما تنقلب فيه القلوب والأبصار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال : إنك كلما أمعنت النظر في مرآة التوبة بان لك قبح شين المعصية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكتب إلى الثوري : من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل ، ومن أطلق بصره طال أسفه ، ومن أطلق أمله ساء عمله ، ومن أطلق لسانه قتل نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسأله بعض الولاة : من أين معيشتك؟ فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نرقع دنيانا بتمزيق ديننا     فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 509 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما توعد الدنيا به من شرورها     يكون بكاء الطفل ساعة يوضع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإلا فما يبكيه منها وإنها     لأروح مما كان فيه وأوسع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا أبصر الدنيا استهل كأنما     يرى ما سيلقى من أذاها ويسمع

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يتمثل أيضا بهذه الأبيات :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رأيت الذنوب تميت القلوب     ويتبعها الذل إدمانها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وترك الذنوب حياة القلو     ب والخير للنفس عصيانها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما أهلك الدين إلا الملوك     وأحبار سوء ورهبانها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وباعوا النفوس فلم يربحوا     ولم يغل بالبيع أثمانها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لقد وقع القوم في جيفة     تبين لذي اللب أنتانها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال إبراهيم بن أدهم : إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك ، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك ، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل ، فكر في ذنبك ، وتب إلى ربك يثبت الورع في قلبك ، واقطع الطمع إلا من ربك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك ، ذم مولانا [ ص: 510 ] الدنيا فمدحناها ، وأبغضها فأحببناها ، وزهدنا فيها فآثرناها ، ورغبنا في طلبها ، ووعدكم خراب الدنيا فحصنتموها ، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها ، وأنذركم الكنوز فكنزتموها ، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها ، فأجبتم مسرعين مناديها ، خدعتكم بغرورها ، ومنتكم فأقررتم خاضعين لأمانيها ، تتمرغون في زهراتها ، وتتنعمون في لذاتها ، وتتقلبون في شهواتها ، وتتلوثون بتبعاتها ، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها ، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وشكى رجل إلى إبراهيم بن أدهم كثرة العيال فقال : ابعث إلي منهم من لا رزقه على الله . فسكت الرجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال إبراهيم بن أدهم : مررت في بعض جبال الشام فإذا بحجر مكتوب عليه بالعربية :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كل حي وإن بقي     فمن العمر يستقي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فاعمل اليوم واجتهد     واحذر الموت يا شقي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فبينا أنا واقف أقرأ وأبكي ، إذا برجل أشعث أغبر عليه مدرعة من شعر ، فسلم وقال : مم تبكي؟ فقلت : من هذا . فأخذ بيدي ومضى غير بعيد ، فإذا صخرة عظيمة مثل المحراب فقال : اقرأ وابك ، ولا تقصر . وقام هو يصلي فإذا في أعلاه نقش بين عربي :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 511 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا تبتغي جاها وجاهك ساقط     عند المليك وكن لجاهك مصلحا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي الجانب الآخر نقش بين عربي :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      من لم يثق بالقضاء والقدر     لاقى هموما كثيرة الضرر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي الجانب الأيسر منه نقش بين عربي :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما أزين التقى ،     وما أقبح الخنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ، وكل مأخوذ بما جنى ،     وعند الله الجزا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أسفل المحراب فوق الأرض بذراع أو أكثر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إنما الفوز والغنى     في تقى الله والعمل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فلما فرغت من القراءة التفت فإذا ليس الرجل هناك ، فما أدري انصرف أو حجب عني؟

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال إبراهيم بن أدهم : أثقل الأعمال في الميزان أثقلها على الأبدان ، ومن وفى العمل وفي له الأجر ، ومن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : كل سلطان لا يكون عادلا فهو واللص بمنزلة واحدة ، وكل عالم لا يكون ورعا فهو والذئب بمنزلة واحدة ، وكل من خدم سوى الله فهو والكلب بمنزلة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 512 ] وقال أيضا : أعربنا في المقال حتى لم نلحن ، ولحنا في الفعال حتى لم نعرب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال : كنا إذا رأينا الشاب يتكلم في المجلس أيسنا من خيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال إبراهيم لأصحابه : جانبوا الناس ، ولا تنقطعوا عن جمعة ولا جماعة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحافظ أبو بكر الخطيب : أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين بن محمد بن رامين الإستراباذي ، أنبأنا عبد الله بن محمد الحميدي الشيرازي ، أنبأنا القاضي أحمد بن محمد بن خرزاد الأهوازي ، حدثني علي بن محمد القصري ، حدثني أحمد بن محمد الحلبي ، سمعت سريا السقطي يقول : سمعت بشر بن الحارث الحافي يقول : قال إبراهيم بن أدهم : وقفت على راهب في جبل لبنان ، فأشرف علي فقلت له : عظني . فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خذ عن الناس جانبا     كي يعدوك راهبا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن دهرا أظلني     قد أراني العجائبا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 513 ] قلب الناس كيف شئ     ت تجدهم عقاربا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال بشر : فقلت لإبراهيم : هذه موعظة الراهب لك ، فعظني أنت . فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      توحش من الإخوان لا تبغ مؤنسا     ولا تتخذ خلا ولا تبغ صاحبا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكن سامري الفعل من نسل آدم     وكن أوحديا ما قدرت مجانبا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقد فسد الإخوان والحب والإخا     فلست ترى إلا مذوقا وكاذبا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقلت ولولا أن يقال مدهده     وتنكر حالاتي لقد صرت راهبا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال سري : فقلت لبشر : هذه موعظة إبراهيم لك ، فعظني أنت . فقال : عليك بلزوم بيتك . فقلت : بلغني عن الحسن أنه قال : لولا الليل وملاقاة الإخوان ما كنت أبالي متى مت . فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا من يسر برؤية الإخوان     مهلا أمنت مكائد الشيطان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خلت القلوب من المعاد وذكره     وتشاغلوا بالحرص والخسران
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صارت مجالس من ترى وحديثهم     في هتك مستور وخلق قران

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الحلبي : فقلت لسري : هذه موعظة بشر لك ، فعظني أنت . فقال : عليك بالإخمال . فقلت : إني أحب ذاك فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا من يريد بزعمه إخمالا     إن كان حقا فاستعد خصالا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ترك المجالس والتذاكر يا أخي     واجعل خروجك للصلاة خيالا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 514 ] بل كن بها حيا كأنك ميت     لا يرتجي منه القريب وصالا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال علي بن محمد القصري : قلت للحلبي : هذه موعظة سري لك ، فعظني أنت . فقال : يا أخي ، أحب الأعمال إلى الله ما أصدر إليه من قلب زاهد في الدنيا ، فازهد في الدنيا يحبك الله . ثم أنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أنت في دار شتات     فتأهب لشتاتك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واجعل الدنيا كيوم     صمته عن شهواتك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واجعل الفطر إذا ما     صمته يوم وفاتك

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خرزاد : فقلت لعلي : هذه موعظة الحلبي لك ، فعظني أنت . فقال لي : احفظ وقتك واسخ بنفسك لله عز وجل ، وانزع قيمة الأشياء عن قلبك يصف لك بذلك سرك ، ويزك به ذكرك . ثم أنشدني :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حياتك أنفاس تعد فكلما     مضى نفس منها انتقصت به جزءا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فتصبح في نقص وتمسي بمثله     وما لك معقول تحس به رزءا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يميتك ما يحييك في كل ساعة     ويحدوك حاد ما يريد بك الهزءا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو محمد : قلت لأحمد : هذه موعظة علي لك ، فعظني . فقال : يا أخي ، عليك بلزوم الطاعة ، وإياك أن تبرح باب القناعة ، وأصلح مثواك ، ولا تؤثر هواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ، واشتغل بما يعنيك بترك ما لا يعنيك . ثم أنشدني :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ندمت على ما كان مني ندامة     ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 515 ] فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم     ستلقون ربا عادلا ليس يظلم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فليس لمغرور بدنياه زاجر     سيندم إن زلت به النعل فاعلم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي أبو محمد بن رامين فقلت لأبي محمد : هذه موعظة أحمد لك ، فعظني أنت . فقال : اعلم ، رحمك الله ، أن الله عز وجل ، ينزل العبيد حيث نزلت قلوبهم بهمومها ، فانظر أين أنزلت قلبك ، واعلم أنه تقرب القلوب على حسب ما قرب إليها ، فانظر من القريب من قلبك . وأنشدني :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلوب رجال في الحجاب نزول     وأرواحهم فيما هناك حلول
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بروح نعيم الأنس في عز قربه     بإفراد توحيد المليك تحول
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لهم بفناء القرب من محض بره     عوائد بذل خطبهن جليل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ أبو بكر الخطيب : فقلت للقاضي أبي محمد بن رامين : هذه موعظة الحميدي لك ، فعظني . فقال : اتق الله ، وثق به ولا تتهمه; فإن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك . وأنشدني :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      اتخذ الله صاحبا     وذر الناس جانبا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جرب الناس كيف شئ     ت تجدهم عقاربا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو الفرج غيث الصوري : فقلت للخطيب البغدادي : هذه موعظة ابن رامين لك ، فعظني أنت . فقال : احذر نفسك التي هي أعدى أعدائك أن تتابعها على هواها ، فذاك أعضل دائك ، واستشعر الخوف من الله بخلافها ، [ ص: 516 ] وكرر على قلبك ذكر نعوتها وأوصافها ، فإنها الأمارة بالسوء والفحشاء ، والموردة من أطاعها موارد العطب والبلاء ، واعمد في جميع أمورك إلى تحري الصدق ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، وقد ضمن الله لمن خالف هواه أن يجعل دار الخلد قراره ومأواه . ثم أنشد لنفسه :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن كنت تبغي الرشاد محضا     في أمر دنياك والمعاد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فخالف النفس في هواها     إن الهوى جامع الفساد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ ابن عساكر : المحفوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة . وقال غيره : سنة إحدى . وقيل : سنة ثلاث . والصحيح ما قاله ابن عساكر ، كما ذكرنا . ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكروا أنه توفي بجزيرة من جزائر بحر الروم وهو مرابط ، وأنه ذهب إلى الخلاء ليلة وفاته نحوا من عشرين مرة ، وكل مرة يجدد الوضوء بعدها ، فلما غشيه الموت قال : أوتروا لي قوسي . وقبض على القوس ، ومات وهو كذلك ، رحمه الله ، وأكرم مثواه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال أبو سعيد ابن الأعرابي : حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ قال : سمعت الشافعي يقول : سمعت السري بن حيان يقول - وكان سفيان معجبا به - :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 517 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أجاعتهم الدنيا فجاعوا ولم يزل     كذلك ذو التقوى عن العيش ملجما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أخو طيئ داود منهم ومسعر     ومنهم وهيب والغريب ابن أدهما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ابن سعيد قدوة البر والنهى     وفي الوارث الفاروق صدقا مقدما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحسبك منهم بالفضيل مع ابنه     ويوسف إن لم يأل أن يتسلما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أولئك أصحابي ، وأهل مودتي     فصلى عليهم ذو الجلال وسلما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما ضر ذا التقوى نصال أسنة     وما زال ذو التقوى أعز وأكرما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما زالت التقوى تريك على الفتى     إذا محض التقوى من العز ميسما

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى البخاري في كتاب " الأدب " عن إبراهيم بن أدهم ، وأخرج له الترمذي في " جامعه " حديثا معلقا في المسح على الخفين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما داود الطائي فهو داود بن نصير الطائي ، أبو سليمان الكوفي الفقيه الزاهد ، أخذ الفقه عن أبي حنيفة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سفيان بن عيينة : ثم ترك طلب الفقه ، وأقبل على العبادة ، ودفن كتبه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 518 ] قال عبد الله بن المبارك : وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال يحيى بن معين : كان ثقة . وقال الخطيب البغدادي : ترك الفقه ، وأقبل على العبادة حتى مات ، وقد قدم على المهدي بغداد ثم عاد إلى الكوفة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مات في سنة ستين ومائة . وقيل : في سنة خمس وستين ومائة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله الذهبي في " تاريخه " أنه توفي في هذه السنة ، أعني سنة ثنتين وستين ومائة . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية