الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
689 [ ص: 53 ] حديث ثان وخمسون لأبي الزناد

مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الصيام جنة ، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه ، فليقل : إني صائم ، إني صائم .

التالي السابق


أما الصيام في الشريعة فمعناه الإمساك عن الأكل والشرب ووطء النساء نهارا إذا كان تارك ذلك يريد به وجه الله وينويه ، هذا معنى الصيام في الشريعة عند جميع علماء الأمة ، وأما أصله في اللغة فالإمساك مطلقا ، وكل من أمسك عن شيء فقد صام عنه ، ألا ترى قول الله عز وجل ( إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ) فسمى الإمساك عن الكلام صوما ، وكل ممسك عن حركة أو عمل أو طعام أو شراب فهو صائم في أصل اللسان ، لكن الاسم الشرعي ما قدمت لك ، وهو يقضي في المعنى على الاسم اللغوي ، وقد ذكرنا شواهد الشعر على الاسم اللغوي في الصيام ، واستوعبنا القول في معناه في باب ثور بن زيد ، والحمد لله .

[ ص: 54 ] وأما قوله : الصيام جنة ، في هذا الحديث فكذلك رواه القعنبي ، ويحيى ، وأبو مصعب ، وجماعة ، ولم يذكر ابن بكير في هذا الحديث " الصيام جنة " وإنما قال : عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ، الحديث ، والجنة : الوقاية والستر من النار ، وحسبك بهذا فضلا للصائم .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا علي بن المديني قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي قال : حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي قال : حدثنا عنبسة الغنوي ، عن الحسن أن عثمان بن أبي العاصي كان يحدث أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الصيام جنة يستجن بها العبد من النار .

وأما قوله : فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث . فإن الرفث هنا الكلام القبيح ، والتشاتم والخنا والتلاعن ، ونحو ذلك من قبيح الكلام الذي هو سلاح اللئام ، ومنه اللغو كله والباطل والزور . قال العجاج :

عن اللغا ورفث الكلام .

قرأت على أبي عبد الله محمد بن عبد الملك ، أن أبا محمد عبد الله بن مسروق حدثهم قال : حدثنا عيسى بن مسكين قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر الجرجاني قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا فطر قال : حدثني زياد بن الحصين ، عن رفيع أبي العالية قال : خرجنا مع ابن عباس حجاجا فأحرم فأحرمنا ، ثم نزل يسوق الإبل وهو يرتجز ويقول :


وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير تجامع لميسا

قلت : يا أبا عباس ، ألست محرما ؟ قال : بلى . قلت : فهذا الكلام الذي تكلم به ؟ قال : إنه لا يكون الرفث إلا ما واجهت به النساء وليس معي نساء .

[ ص: 55 ] وفي غير هذه الرواية في هذا الحديث :


وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير تنك لميسا

قال أبو عمر :

الرفث في كلام العرب على وجهين : أحدهما : الجماع ، والآخر : الكلام القبيح ، والفحش من المقال ، واختلف العلماء في قول الله عز وجل ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) فأكثر العلماء على أن الرفث هاهنا جماع النساء وغشيانهن ، والفسوق : المعاصي بإجماع ، والجدال : المراء ، وقيل : السباب والمشاتمة ، وقيل : ألا تغضب صاحبك ، وقيل : أي لا جدال في الحج بعد اليوم ، لأنه قد استقام في ذي الحجة ، ولم يختلف العلماء في قول الله عز وجل ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) أن الرفث ههنا الجماع .

وأما قوله : فإن امرؤ قاتله أو شاتمه ، فليقل : إني صائم . ففيه قولان : أحدهما : أنه يقول للذي يريد مشاتمته ومقاتلته : إني صائم ، وصومي يمنعني من مجاوبتك لأني أصون صومي عن الخنا والزور من القول ، بهذا أمرت ، ولولا ذلك لانتصرت لنفسي بمثل ما قلت لي سواء ، ونحو ذلك ، والمعنى حينئذ على هذا التأويل في الحديث أن الصائم نهي عن مقاتلته بلسانه ومشاتمته ، وصونه صومه عن ذلك ، وبهذا ورد الحديث .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن يونس قال : حدثنا ابن أبي ذئب عن المقبري ، عن أبيه [ ص: 56 ] ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه .

وقال أحمد بن يونس : فهمت الإسناد من ابن أبي ذئب ، وأفهمني الحديث رجل إلى جنبه أراه ابن أخيه ، ورواه ابن المبارك عن ابن أبي ذئب بإسناده مثله .

والقول الثاني : أن الصائم يقول في نفسه لنفسه : إني صائم يا نفسي ، فلا سبيل إلى شفاء غيظك بالمشاتمة ، ولا يظهر قوله " إني صائم " لما فيه من الرياء وإطلاع الناس على عمله ; لأن الصوم من العمل الذي لا يظهر ، ولذلك يجزي الله الصائم أجره بغير حساب على حسب ما نذكر في الباب بعد هذا إن شاء الله .

وللصيام فرائض وسنن ، وقد ذكرنا فرائضه في باب ثور بن زيد ، ومن سننه أن لا يرفث الصائم ولا يغتاب أحدا ، وأن يجتنب قول الزور والعمل به ، على ما جاء في آثار هذا الباب وغيرها ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، فمعناه الكراهية والتغليظ ، كما جاء في الحديث : من شرب الخمر فليشقص الخنازير . أي يذبحها أو ينحرها أو يقتلها بالمشقص . وليس هذا على الأمر بشقص الخنازير ، ولكنه على تعظيم إثم شارب الخمر ، فكذلك من اغتاب أو شهد زورا أو منكرا لم يؤمر بأن يدع صيامه ، ولكنه يؤمر باجتناب ذلك ليتم له أجر صومه ، فاتقى عبد ربه وأمسك عن الخنا والغيبة والباطل بلسانه ، صائما كان أو غير صائم ، فإنما يكب الناس في النار على وجوههم حصائد ألسنتهم ، والله الموفق للرشاد .




الخدمات العلمية