الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
232 [ ص: 29 ] حديث سابع وأربعون لأبي الزناد

مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قلت لصاحبك أنصت ، والإمام يخطب ، فقد لغوت .

التالي السابق


هكذا روى يحيى هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد ، وكذلك هو في الموطأ عند جمهور الرواة .

ورواه جماعة من رواة الموطأ : إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت .

وبعضهم يقول فيه : يريد بذلك والإمام يخطب ، وعند مالك في هذا الحديث إسنادان أحدهما هذا عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، والثاني عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا قلت أنصت ، والإمام يخطب ، فقد لغوت .

ولم يرو يحيى في هذا الحديث عن مالك غير إسناد أبي الزناد ، وجمعهما القعنبي وغيره عن مالك .

ذكر القعنبي حديث أبي الزناد في كتاب الصلاة ، وذكر حديث الزهري في الزيادات ، وقد رواهما ابن القاسم وابن وهب وغيرهما ، عن مالك جميعا كما ذكرت لك .

[ ص: 30 ] وروى الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، وعن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا قلت لصاحبك أنصت ، والإمام يخطب يوم الجمعة ، فقد لغوت .

وقال ابن عجلان في هذا الحديث ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : إذا قلت لصاحبك أنصت - والإمام يخطب يوم الجمعة - فقد لغوت ، عليك بنفسك .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، قال : حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، قال : حدثني محمد بن عجلان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة فقد لغوت ، عليك بنفسك .

وأخبرنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى القطان ، عن مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال النبي عليه السلام : من قال والإمام يخطب أنصت فقد لغا .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت ، فقد لغا .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، قال : حدثني أبي ، عن [ ص: 31 ] جدي قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ ، وعن ابن المسيب أنهما حدثاه أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا قلت لصاحبك أنصت ، والإمام يخطب يوم الجمعة ، فقد لغوت .

ورواه ابن جريج عن ابن شهاب كما رواه الليث . ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : حدثني ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا قلت لصاحبك أنصت ، والإمام يخطب يوم الجمعة ، فقد لغوت .

قال ابن شهاب : وحدثني عمر بن عبد العزيز ، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

ورواه معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قلت للناس أنصتوا ، يوم الجمعة وهم ينطقون والإمام يخطب ، فقد لغوت .

قال أبو عمر :

أما قوله " فقد لغوت " فإنه يريد : فقد جئت بالباطل ، وجئت بغير الحق ، واللغو : الباطل .

[ ص: 32 ] قال قتادة في قول الله عز وجل ( لا يشهدون الزور ) قال : الكذب ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) قال : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ، ولا يمالئونهم عليه .

وقال أبو عبيدة : اللغو : كل شيء من الكلام ليس بحسن ، والفحش أشد من اللغو ، واللغو والهجر في القول سواء ، واللغو واللغا لغتان ، يقال من اللغا : لغيت تلغى ، مثل لقيت تلقى ، وهو التكلم بما لا ينبغي وبما لا نفع فيه .

وقال الأخفش : اللغو : الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه .

قال العجاج : عن اللغا ورفث التكلم قال أبو عمر :

لا خلاف علمته بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات للخطبة على من سمعها في الجمعة ، وأنه غير جائز أن يقول الرجل لمن سمعه من الجهال يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة : أنصت ، أو : صه ، أو نحو ذلك ؛ أخذا بهذا الحديث واستعمالا له وتقبلا لما فيه .

وقد روي عن الشعبي ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، وأبي بردة أنهم كانوا يتكلمون في الخطبة ، إلا حين قراءة الإمام القرآن في الخطبة خاصة ، كلهم ذهبوا ألا إنصات إلا للقرآن لقوله ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) وفعلهم ذلك مردود عند أهل العلم بالسنة الثابتة المذكورة في هذا الباب ، وأحسن أحوالهم أن يقال : إنهم لم يبلغهم الحديث في ذلك ، [ ص: 33 ] لأنه حديث انفرد به أهل المدينة ، ولا علم لمتقدمي أهل العراق به ، والحجة في السنة لا فيما خالفها ، وبالله التوفيق .

واختلف العلماء في وجوب الإنصات على من شهد الخطبة إذا لم يسمعها لبعده عن الإمام ، فذهب مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي إلى أن الكلام لا يجوز لكل من شهد الخطبة سمع أو لم يسمع ، وكان عثمان بن عفان يقول في خطبته : استمعوا وأنصتوا ، فإن للمستمع الذي لا يسمع من الأجر مثل ما للمستمع السامع .

وعن ابن عمر ، وابن عباس أنهما كانا يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام ، ولا مخالف لهؤلاء من الصحابة ، فسقط قول الشافعي ومن قال بقوله في هذا الباب ، وكان عروة بن الزبير لا يرى بأسا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة يوم الجمعة .

وقال أحمد بن حنبل : لا بأس أن يقرأ ويذكر الله من لا يسمع الخطبة .

وذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن حماد ، عن إبراهيم قال : إني لأقرأ جزئي إذا لم أسمع الخطبة يوم الجمعة .

قال أبو عمر :

هذا يدل على أنه لو سمع الخطبة لم يقرأ ، وهذا أصح عنه من الذي تقدم ، وإذا لم يقرأ فأحرى أن لا يتكلم .

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج ، عن عطاء قال : يحرم الكلام ما كان الإمام على المنبر ، وإن كان قد ذهب في غير ذكر الله ، قيل لعطاء : أيذكر [ ص: 34 ] الإنسان الله - والإمام يخطب يوم عرفة أو يوم الفطر ، وهو يعقل قول الإمام ؟ قال : لا كل ذلك عيد ، فلا يتكلمن ; إلا أن يذهب الإمام في غير ذكر الله . قال : قال عطاء : إذا استقى الإمام فادع ، هو يأمرك حينئذ به ، عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أسبح وأهلل يوم الجمعة ، وأنا أعقل الخطبة قال : لا إلا الشيء اليسير ، واجعله بينك وبين نفسك . قال : قلت لعطاء : فإذا كنت لا أسمع الإمام أسبح وأهلل وأدعو الله لنفسي ولأهلي وأسميهم بأسمائهم واسمي ؟ قال : نعم .

عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : قلت لعمرو بن دينار أواجب الإنصات يوم الجمعة ، والإمام يخطب ؟ قال : كذلك زعموا .

عبد الرزاق ، عن معمر قال : سئل الزهري عن التسبيح والتكبير ، والإمام يخطب قال : كان يؤمر بالصمت قال : قلت : ذهب الإمام في غير ذكر الله في الجمعة قال : تكلم إن شئت . قال معمر ، وقال قتادة : إن أحدثوا فلا تحدث .

[ ص: 35 ] عبد الرزاق عن محمد بن مسلم ، عن إبراهيم بن ميسرة قال : سمعت طاوسا يقول : إذا كان يوم الجمعة ، والإمام على المنبر ، فلا يدعو أحد بشيء ، ولا يذكر إلا أن يذكر الإمام .

وذكر الحسن بن علي الحلواني قال : حدثنا ابن أبي مريم قال : شهدت الليث بن سعد ، وموسى بن مصعب يخطبهم يوم الجمعة فقال : في خطبته ( إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ) فسمعت الليث يقول : اللهم لا تمقتنا .

وذكر الزبير بن أبي بكر القاضي قال : أخبرنا مصعب بن عثمان ، عن مشيخته أن عبد الله بن عروة بن الزبير كان يشهد الجمعة فيخرج خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاصي فيخطب ، فيستقبله عبد الله بن عروة ، وينصت له فإذا شتم خالد عليا تكلم عبد الله بن عروة ، وأقبل على أدنى إنسان إلى جنبه فيقال له : إن الإمام يخطب ، فيقول : إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا .

قال أبو عمر :

الذي عليه جماعة الفقهاء أن لا يدعو أحد ولا يذكر الله غير الإمام في خطبته ، وأما المستمع فلا ينطق بشيء ، وإنما عليه الإنصات والاستماع ، وقد روي عن عطاء الخراساني وعكرمة أنهما قالا : من قال والإمام يخطب صه فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعة له .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أسود بن عامر قال : [ ص: 36 ] ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم جمعة فذكر سورة فقال أبو ذر لأبي بن كعب : متى نزلت هذه السورة ؟ فأعرض عنه ، فلما انصرف قال له : ما لك من صلاتك إلا ما لغوت ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : صدق .

وقد روي من مرسلات الحسن أن هذه القصة عرضت لابن مسعود أو لأبي مسعود مع أبي ، وأن النبي عليه السلام قال : صدق أبي ، والصحيح أن هذه القصة عرضت لأبي ذر مع أبي على ما في هذا الحديث المسند المتصل .

وأما قوله : ما لك من جمعتك إلا ما لغوت ، وقول من قال : لا جمعة له ، فهذا محمله عندنا على أنه ليس له ثواب من صلى الجمعة وأنصت ، لا أنه أفسد الكلام صلاته وأبطلها ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : تحريمها التكبير يدل على أن ما قبل التكبير لا يفسدها ، والله أعلم .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا سليمان بن الأشعث قال : حدثنا مسدد ، وأبو كامل قالا : حدثنا يزيد بن حبيب ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو عن النبي عليه السلام قال : يحضر الجمعة ثلاثة نفر ، فرجل حضرها يلغو ، وهو حظه منها ، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله ، فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه ، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ، ولم يتخط رقبة مسلم ، ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها ، وثلاثة أيام .

[ ص: 37 ] قال أبو عمر :

ففي هذا الحديث قوله : فرجل حضرها يلغو فهو حظه منها ، ولم يأمره بالإعادة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا سعيد بن سليمان قال : حدثنا ابن نمير قال : ( أخبرنا ) مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا ، وهذا مثله أيضا لم يأمره بإعادة .

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : هل تعلم من شيء يقطع جمعة الإنسان حتى يجب عليه أن يصلي أربعا من كلام أو تخطي رقاب الناس أو غير ذلك ؟ قال : لا . وعن ابن جريج عن عطاء قال : يقال : من تكلم فكلامه حظه من الجمعة ، يقول : من أجل الجمعة ، فأما أن يوفي أربعا فلا .

قال أبو عمر :

على هذا جماعة الفقهاء من أهل الرأي والأثر ، وجماعة أهل النظر لا يختلفون في ذلك ، وحسبك بهذا أصلا وإجماعا .

واختلفوا في رد السلام وتشميت العاطس في الخطبة ، فقال مالك وأصحابه : لا يشمت العاطس ولا يرد السلام ; إلا إن رده إشارة كما يرد في الصلاة .

[ ص: 38 ] وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يرد السلام ، ولا يشمت العاطس .

وقال الثوري ، والأوزاعي : لا بأس برد السلام وتشميت العاطس ، والإمام يخطب ، وهو قول الحسن البصري ، والنخعي ، والشعبي ، والحكم ، وحماد ، والزهري ، وبه قال إسحاق ، واختلف قول الشافعي في ذلك فقال في الكتاب القديم بالعراق : يستقبلون الإمام بوجوههم وينصتون ، ولا يشمتوا عاطسا ، ولا يردوا سلاما إلا بالإشارة ، وقال في الجديد : ولو سلم رجل كرهته له ، ورأيت أن يرد عليه بعضهم ; لأن رد السلام فرض . قال : ولو عطس رجل ، والإمام يخطب في الجمعة ، فشمته رجل ، رجوت أن يسعه ; لأن التشميت سنة ، واختاره المزني ، وحكى البويطي عنه أنه لا بأس برد السلام وتشميت العاطس ، والإمام يخطب في الجمعة وغيرها ، وكذلك حكى إسحاق بن منصور ، عن أحمد ، وإسحاق ، وروي عن أحمد أيضا إذا لم يسمع الخطبة شمت ورد .

وروي مثل ذلك عن عطاء ، وقال الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : هل يرد السلام يوم الجمعة والإمام يخطب ؟ قال : نعم . قيل له : ويشمت العاطس ؟ قال : نعم .

وقال أبو جعفر الطحاوي : لما كان مأمورا بالإنصات كالصلاة لم يشمت ، كما لا يشمت في الصلاة ، فإن قيل : رد السلام فرض والصمت سنة ، قال أبو جعفر : الصمت فرض لأن الخطبة فرض ، وإنما تصح بالخاطب والمخطوب ، يفعلها الخاطب فرضا كذلك المستمع فرض عليه ذلك .

قال أبو عمر :

في هذا نظر ، والصمت واجب بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالله تعالى التوفيق .




الخدمات العلمية