الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم

التفريع مؤذن بأن السكينة أنزلت عقب الحلول في الغار ، وأنها من النصر ، إذ هي نصر نفساني ، وإنما كان التأييد بجنود لم يروها نصرا جثمانيا . وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله : لا تحزن إن الله معنا بل إن قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه ، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إياه ، فيكون تقدير الكلام : فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيده بجنود حين أخرجه الذين كفروا ، وحين كان في الغار ، وحين قال لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا . فتلك [ ص: 204 ] الظروف الثلاثة متعلقة بفعل " نصره " على الترتيب المتقدم ، وهي كالاعتراض بين المفرع عنه والتفريع ، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أن النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به ، وأن نصره كان معجزة خارقا للعادة .

وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسرين في معنى الآية ، حتى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله : فأنزل الله سكينته عليه إلى أبي بكر ، مع الجزم بأن الضمير المنصوب في أيده راجع إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فنشأ تشتيت الضمائر ، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر ، مع أن المقام لذكر ثبات النبيء - صلى الله عليه وسلم - وتأييد الله إياه ، وما جاء ذكر أبي بكر إلا تبعا لذكر ثبات النبيء - صلى الله عليه وسلم ، وتلك الحيرة نشأت عن جعل فأنزل الله مفرعا على إذ يقول لصاحبه لا تحزن وألجأهم إلى تأويل قوله : وأيده بجنود لم تروها إنها جنود الملائكة يوم بدر ، وكل ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل ، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديما وتأخيرا .

والسكينة اطمئنان النفس عند الأحوال المخوفة ، مشتقة من السكون ، وقد تقدم ذكرها عند قوله - تعالى : فيه سكينة من ربكم في سورة البقرة .

والتأييد التقوية والنصر ، وهو مشتق من اسم اليد ، وقد تقدم عند قوله - تعالى : وأيدناه بروح القدس في سورة البقرة .

والجنود جمع جند بمعنى الجيش ، وقد تقدم عند قوله - تعالى : فلما فصل طالوت بالجنود في سورة البقرة ، وتقدم آنفا في هذه السورة .

ثم جوز أن تكون جملة وأيده بجنود معطوفة على جملة فأنزل الله سكينته عليه عطف تفسير فيكون المراد بالجنود الملائكة الذين ألقوا الحيرة في نفوس المشركين فصرفوهم عن استقصاء البحث عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - وإكثار الطلب وراءه والرصد له في الطرق المؤدية والسبل الموصلة ، لا سيما ومن الظاهر أنه قصد يثرب مهاجر أصحابه ، ومدينة أنصاره ، فكان سهلا عليهم أن يرصدوا له طرق الوصول إلى المدينة .

[ ص: 205 ] ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة " أخرجه " والتقدير : وإذ أيده بجنود لم تروها أي بالملائكة ، يوم بدر ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، كما مر في قوله : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها

( والكلمة ) أصلها اللفظة من الكلام ، ثم أطلقت على الأمر والشأن ونحو ذلك من كل ما يتحدث به الناس ويخبر المرء به عن نفسه من شأنه ، قال - تعالى : وجعلها كلمة باقية في عقبه ( أي أبقى التبريء من الأصنام والتوحيد لله شأن عقبه وشعارهم ) وقال وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات أي بأشياء من التكاليف كذبح ولده ، واختتانه ، وقال لمريم إن الله يبشرك بكلمة منه أي بأمر عجيب ، أو بولد عجيب ، وقال وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا أي أحكامه ووعوده ومنه قولهم : لا تفرق بين كلمة المسلمين ، أي بين أمرهم واتفاقهم ، وجمع الله كلمة المسلمين ، فكلمة الذين كفروا شأنهم وكيدهم وما دبروه من أنواع المكر .

ومعنى السفلى الحقيرة لأن السفل يكنى به عن الحقارة ، وعكسه قوله : وكلمة الله هي العليا فهي الدين وشأن رسوله والمؤمنين ، وأشعر قوله : وجعل كلمة الذين كفروا السفلى أن أمر المشركين كان بمظنة القوة والشدة لأنهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء ، ولكنهم لما شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علو إلى سفل .

وجملة وكلمة الله هي العليا مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنه لما أخبر عن كلمة الذين كفروا بأنها صارت سفلى أفاد أن العلاء انحصر في دين الله وشأنه . فضمير الفصل مفيد للقصر ، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفروا ، إذ ليس المقصود إفادة جعل كلمة الله عليا ، لما يشعر به الجعل من إحداث الحالة ، بل إفادة أن العلاء ثابت لها ومقصور عليها ، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى .

ومعنى جعلها كذلك : أنه لما تصادمت الكلمتان وتناقضتا بطلت كلمة الذين كفروا واستقر ثبوت كلمة الله .

[ ص: 206 ] وقرأ يعقوب ، وحده وكلمة الله بنصب ( كلمة ) عطفا على كلمة الذين كفروا السفلى فتكون كلمة الله عليا بجعل الله وتقديره .

وجملة والله عزيز حكيم تذييل لمضمون الجملتين : لأن العزيز لا يغلبه شيء ، والحكيم لا يفوته مقصد ، فلا جرم تكون كلمته العليا وكلمة ضده السفلى .

التالي السابق


الخدمات العلمية