الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
383 [ ص: 26 ] حديث سادس وأربعون لأبي الزناد

مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة .

التالي السابق


هذا حديث صحيح لا مطعن لأحد فيه من جهة الإسناد ، وقد روي عن أبي هريرة من وجوه .

في هذا الحديث دليل على أن فضل منتظر الصلاة كفضل المصلي ; لأنه معلوم أن قوله عليه السلام : لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه . لم يرد به أن ينتظر الصلاة قائما ، ولا أنه راكع وساجد ، وإنما أراد أن فضل انتظار الصلاة بالقصد إلى ذلك وبالنية فيه كفضل الصلاة ، وأن منتظرها كالمصلي في الفضل ، ولله أن يتفضل بما شاء على من يشاء فيما شاء من الأعمال لا معقب لحكمه ولا راد لفضله ، ومن الوجه الذي عرفنا فضل الصلاة فيه عرفنا فضل انتظارها ، وقد علم الناس أن المصلي في تلاوته وقيامه وركوعه أتعب من المنتظر للصلاة ذاكرا كان أو ساكنا ، ولكن الفضائل لا تدرك بنظر ، ولا مدخل فيها لقياس ، ولو أخذت قياسا لكان من نوى السيئة كمن نوى الحسنة ، ولكن الله منعم [ ص: 27 ] كريم متفضل رحيم يكتب الحسنة بالنية ، وإن لم تعمل ، فإن عملت ضعفت عشرا إلى سبعمائة ، والله يضاعف لمن يشاء ، ولا يؤاخذ عباده المسلمين بما وسوست به صدورهم ، ونووا من الشر ما لم يعملوه ، وهذا كله لا مدخل فيه للقياس ، ألا ترى إلى ما مضى ذكره في باب محمد بن المنكدر من هذا الكتاب في الذي كان له صلاة من الليل فغلبته عينه ، أنه يكتب له أجر صلاته ، وأن من نوى الجهاد وأراده ، ثم حبسه عن ذلك عذر ، أنه يكتب له أجر المجاهد في مشيه وسعيه ونصبه ، ومعلوم أن مشقة المسافر وما يلقاه من ألم السفر ، لا يجده المتخلف المحبوس بالعذر ، وكذلك المريض يكتب له في مرضه ما كان يواظب عليه من أعمال البر ، وهذا كله موجود في الآثار الصحاح عن النبي عليه السلام قد مضى أكثرها في هذا الكتاب ، فغير نكير أن يعطى منتظر الصلاة فضل المصلي وثواب عمله لحبسه نفسه عن التصرف في حاجاته انتظارا منه لصلاته ، كما يحبس المعتكف نفسه عن تصرفه ، ويلزم موضع اعتكافه حينا في صلاة ، وحينا في غير صلاة ، وهو في ذلك كله معتكف ، وكذلك المرابط المنتظر لصيحة العدو في موضع الخوف له فضل المقاتل في سبيل الله ، الشاهر سيفه في ذلك كانتظار العدو وإرصاده له وارتقابه إياه ، وقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطا ، وسيأتي ذلك في باب أبي العلاء إن شاء الله .

وقد روينا عن أبي الدرداء أنه قال : من قلة فقه الرجل أن يكون في المسجد منتظرا للصلاة ، وهو يحسب أن ليس في صلاة .

وذكر ابن وضاح ، عن محمد بن أبي السري العسقلاني قال : رأيته يأتي المسجد فيحييه بركعتين ثم يجلس ويقول : ما أبالي صليت أو قعدت منتظرا للصلاة ، وهذا - والله أعلم - إذا كان المنتظر للصلاة لا يحبسه في المسجد إلا [ ص: 28 ] انتظارها ، ولا يخلط بنيته سواها ، ويحتاج مع ذلك أن لا يلغو ولا يلهو ، فحينئذ يرجى له بما ذكرنا ، وقد نزع عبد الله بن سلام في معارضته أبا هريرة حين قال له في الساعة التي في يوم الجمعة : هي آخر ساعة من النهار ، فقال أبو هريرة : كيف يكون ذلك ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن ذلك ليس بوقت صلاة ، وقال في الساعة التي في يوم الجمعة : لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي . فقال له عبد الله بن سلام : أليس قد قال - صلى الله عليه وسلم - إن أحدكم في صلاة ما كان ينتظر الصلاة ؟ قال : نعم . قال : فهو ذاك . فسكت أبو هريرة وسلم لما أخذته الحجة ، وهكذا أهل الإنصاف ، والله المستعان .

وقد قيل : إن منتظر الصلاة في المسجد ، وإن لغا ولها ، فإنه على أصل نيته وعمله ، وسنذكر بعد هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - : الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث ، وما ذهب إليه مالك وغيره في ذلك إن شاء الله .

وقد قيل : إن منتظر الصلاة وإن كتب له أجر المصلي ، فالمصلي أفضل منه ، كما أنه بعض الشهداء أفضل من بعض ، وكلهم يسمى شهيدا ، ومن حجة من قال هذا القول ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله : صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم . يعني في الأجر ، والله أعلم .

فإذا كان القائم أفضل من القاعد في الصلاة ، فكذلك هو أفضل من المنتظر ، والله يؤتي فضله من شاء لا شريك له ، وتحصيل هذا الباب عندي - والله أعلم - ما تنعقد عليه النية ، وما يجده في نفسه المتخلف عن الغزو بالعذر من ألم ما فقد من ذلك ، والحسرة والتأسف والحزن عليه ، وشدة الحرص في النهوض إليه ، وكذلك المريض والنائم فيما فاته لمرضه ونومه من صلاته ، وسائر صالح عمله ، والله الموفق للصواب .




الخدمات العلمية