الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية .

فقال بعضهم : عنى بها أصحمة النجاشي ، وفيه أنزلت .

ذكر من قال ذلك :

8376 - حدثنا عصام بن رواد بن الجراح قال : حدثنا أبي قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن جابر بن عبد الله : أن [ ص: 497 ] النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اخرجوا فصلوا على أخ لكم" . فصلى بنا ، فكبر أربع تكبيرات ، فقال : "هذا النجاشي أصحمة " ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط! فأنزل الله : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " .

8377 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثنا أبي عن قتادة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه . قالوا : يصلى على رجل ليس بمسلم! قال : فنزلت : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله " . قال قتادة : فقالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة! فأنزل الله : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) [ سورة البقرة : 115 ]

8378 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " ، ذكر [ ص: 498 ] لنا أن هذه الآية نزلت في النجاشي ، وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وصدقوا به . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم استغفر للنجاشي وصلى عليه حين بلغه موته ، قال لأصحابه : " صلوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم"! فقال أناس من أهل النفاق : "يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه"؟ فأنزل الله هذه الآية : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب " .

8379 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " ، قال : نزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم واسم النجاشي ، أصحمة .

8380 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : قال عبد الرزاق ، وقال ابن عيينة : اسم النجاشي بالعربية : عطية .

8381 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، طعن في ذلك المنافقون ، فنزلت هذه الآية : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " ، إلى آخر الآية .

وقال آخرون : بل عنى بذلك عبد الله بن سلام ومن معه .

ذكر من قال ذلك :

8382 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : نزلت - يعني هذه الآية - في عبد الله بن سلام ومن معه .

8383 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن زيد في [ ص: 499 ] قوله : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " ، الآية كلها قال : هؤلاء يهود .

وقال آخرون : بل عنى بذلك مسلمة أهل الكتاب .

ذكر من قال ذلك :

8384 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم " ، من اليهود والنصارى ، وهم مسلمة أهل الكتاب .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد . وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله : "وإن من أهل الكتاب" أهل الكتاب جميعا ، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود ، ولا اليهود دون النصارى . وإنما أخبر أن من"أهل الكتاب" من يؤمن بالله . وكلا الفريقين أعني اليهود والنصارى من أهل الكتاب .

فإن قال قائل : فما أنت قائل في الخبر الذي رويت عن جابر وغيره : أنها نزلت في النجاشي وأصحابه؟

قيل : ذلك خبر في إسناده نظر . ولو كان صحيحا لا شك فيه ، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف . وذلك أن جابرا ومن قال بقوله ، إنما قالوا : "نزلت في النجاشي " ، وقد تنزل الآية في الشيء ، ثم يعم بها كل من كان في معناه . فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي ، حكما لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في اتباعهم [ ص: 500 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتصديق بما جاءهم به من عند الله ، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين ، التوراة والإنجيل .

فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : " وإن من أهل الكتاب " التوراة والإنجيل"لمن يؤمن بالله" فيقر بوحدانيته" وما أنزل إليكم " ، أيها المؤمنون ، يقول : وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم" وما أنزل إليهم " ، يعني : وما أنزل على أهل الكتاب من الكتب ، وذلك التوراة والإنجيل والزبور" خاشعين لله ، يعني : خاضعين لله بالطاعة ، مستكينين له بها متذللين ، كما : -

8385 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن زيد في قوله : " خاشعين لله " ، قال : الخاشع ، المتذلل لله الخائف .

ونصب قوله : " خاشعين لله " ، على الحال من قوله : " لمن يؤمن بالله " ، وهو حال مما في"يؤمن" من ذكر"من" .

" لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا " ، يقول : لا يحرفون ما أنزل إليهم في كتبه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيبدلونه ، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه ، لعرض من الدنيا خسيس يعطونه على ذلك التبديل ، وابتغاء الرياسة على الجهال ، ولكن ينقادون للحق ، فيعملون بما أمرهم الله به فيما أنزل إليهم من كتبه ، وينتهون عما نهاهم عنه فيها ، ويؤثرون أمر الله تعالى على هوى أنفسهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية