الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1001 [ ص: 13 ] حديث ثالث وأربعون لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما ، اللون لون دم ، والريح ريح مسك .

التالي السابق


هذا من أحسن حديث في فضل الغزو في سبيل الله ، والحض على الثبوت عند لقاء العدو ، وأما قوله : " لا يكلم " فمعناه : لا يجرح أحد في سبيل الله ، والكلوم : الجراح ، معروف ذلك في لسان العرب معرفة يستغنى بها عن الاستشهاد عليها بشيء . ( ومن أملح ما جاء في ذلك قول حسان بن ثابت يصف امرأة ناعمة طرية ، زعم أن الذر لو مشى عليها لجرحها جراحا تصيح منها وتندب نفسها فقال :


لو يدب الحولي من ولد الذر عليها لأندبتها الكلوم )

[ ص: 14 ] وأما قوله : يثعب دما ، فمعناه ينفجر دما .

، وأما قوله : في سبيل الله ، فالمراد به الجهاد والغزو وملاقاة أهل الحرب من الكفار ، على هذا خرج الحديث ، ويدخل فيه بالمعنى كل من خرج في سبيل بر وحق وخير مما قد أباحه الله ، كقتال أهل البغي الخوارج واللصوص والمحاربين ، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قتل دون ماله فهو شهيد . وفي قوله عليه السلام : " والله أعلم بمن يكلم في سبيله " دليل على أن ليس كل من خرج في الغزو تكون هذه حاله حتى تصح نيته ، ويعلم الله من قلبه أنه خرج يريد وجهه ومرضاته ، لا رياء ، ولا سمعة ، ولا مباهاة ، ولا فخرا .

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الشهيد يبعث على حاله التي قبض عليها ، ويحتمل أن يكون ذلك في كل ميت - والله أعلم - يبعث على حاله التي مات فيها ; إلا أن فضل الشهيد ( المقتول ) في سبيل الله بين الصفين أن يكون ريح دمه كريح المسك وليس كذلك دم غيره .

ومن قال : إن الموتى جملة يبعثون على هيئاتهم ، احتج بحديث يحيى بن أيوب ، عن ابن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم ، عن مسلمة ، عن أبي سعيد الخدري أنه لما حضرته الوفاة دعا بثياب جدد فلبسها ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها ، وهذا قد يحتمل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهيد فتأوله على العموم ، ويكون الميت المذكور في حديثه هو الشهيد الذي أمر أن يزمل بثيابه ويدفن فيها ، ولا يغسل عنه دمه ، ولا يغير شيء من حاله ، بدليل حديث ابن عباس وغيره ، عن النبي أنه قال : إنكم محشورون يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، ثم [ ص: 15 ] قرأ ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، فلهذا الحديث وشبهه تأولنا في حديث أبي سعيد ما ذكرنا ، والله أعلم .

وقد كان بعضهم يتأول في حديث أبي سعيد أنه يبعث على العمل الذي يختم له به ، وظاهره على غير ذلك ، والله أعلم .

وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذا الحديث ، وما كان مثله في سقوط غسل الشهيد المقتول في دار الحرب بين الصفين ، ولا حاجة بنا إلى الاستدلال في ترك غسل الشهداء الموصوفين بذلك مع وجود النص فيهم ، وسيأتي ما للعلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم في بلاغات مالك من هذا الكتاب إن شاء الله .

أخبرنا عبد الله بن محمد أخبرنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال : سمعت عبد ربه يحدث عن الزهري ، عن ابن جابر ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قتلى أحد : لا تغسلوهم ، فإن كل جرح أو دم يفوح مسكا يوم القيامة . ولم يصل عليهم .

قال أبو داود : الذي تفرد به من هذا الحديث قوله : لا تغسلوهم ، واختلف عن الزهري في الإسناد في هذا المعنى ، وقد ذكرنا بعض ذلك في بلاغات مالك ، والحمد لله .

وزعمت طائفة بأن في هذا الحديث دليلا على أن الماء إذا تغيرت رائحته بشيء من النجاسات ، ولونه لم يتغير ، أن الحكم للرائحة دون اللون ، فزعموا أن الاعتبار باللون في ذلك لا معنى له ; لأن دم الشهيد يوم القيامة يجيء [ ص: 16 ] ولونه كلون الدماء ، ولكن رائحته فصلت بينه ، وبين سائر الدماء ، وكان الحكم لها ; فاستدلوا في زعمهم بهذا الحديث على أن الماء إذا تغير لونه لم يضره ، وهذا لا يفهم منه معنى تسكن النفس إليه ، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه ، ولا يشتغل بمثل هذا ( من له فهم ، وإنما اغترت هذه الطائفة بأن البخاري ذكر هذا الحديث في باب الماء ، والذي ذكره البخاري لا وجه له يعرف ) وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله ، وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه ، وبذلك أخذ الميثاق عليهم ( لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) وفي كتاب البخاري أبواب لو لم تكن فيه كان أصح لمعانيه ، والله الموفق للصواب ) والماء لا يخلو تغيره من أن يكون بنجاسة أو بغير نجاسة ، فإن كان بنجاسة فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ، ولا مطهر ، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله ، وقال الجمهور : إنه غير مطهر ; إلا أن يكون تغيره من تربته ، وحمأته ، وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه ، ولا التباس معه ، وقد ذكرنا حكم الماء عند العلماء ، واجتلبنا مذاهبهم في ذلك ، والاعتلال لأقوالهم في باب إسحاق بن أبي طلحة من كتابنا هذا ، والحمد لله .




الخدمات العلمية