الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
303 [ ص: 4 ] حديث ثان وأربعون لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف ، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير ، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء .

التالي السابق


أكثر الرواة عن مالك في الموطأ لا يقولون في هذا الحديث : " والكبير " وقاله جماعة ، منهم يحيى وقتيبة ، وهكذا رواية أبي الزناد من حديث مالك وغيره ، لم يذكر في حديثه هذا " وذا الحاجة " وهو محفوظ من حديث أبي هريرة أيضا ، وأبي مسعود ، وعثمان بن أبي العاص .

، حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا كان أحدكم إماما فليخفف ، فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة ، فإذا صلى أحدكم لنفسه فيطول ما شاء .

، وأكثر ما في هذا الحديث أمر الأئمة بالتخفيف وترك التطويل لعلل قد بانت في قوله : فإن فيهم الكبير ، والسقيم ، والضعيف ، وذا الحاجة ، والتخفيف لكل إمام أمر مجتمع عليه مندوب عند العلماء إليه ; إلا أن ذلك إنما هو أقل [ ص: 5 ] الكمال ، وأما الحذف والنقصان فلا ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن نقر الغراب ، ورأى رجلا يصلي ، ولم يتم ركوعه وسجوده فقال له : ارجع فصل فإنك لم تصل .

، وقال - صلى الله عليه وسلم - : لا ينظر الله عز وجل إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده ، وقال أنس : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخف الناس صلاة في تمام .

حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن معاوية حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أخف الناس صلاة في تمام .

، وروي هذا عن أنس من وجوه ، وقد رواه عبد الملك بن بديل ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، فهو غريب من حديث مالك غير محفوظ له ، وعبد الملك بن بديل شامي ليس بالمشهور بحمل العلم ، ولا ممن تعرف له جرحة يجب بها رد روايته ، والله أعلم .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا الليث قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، أن جعفر بن عبد الله بن الحكم حدثه عن تميم بن محمود الليثي ، عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري أنه قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نقر الغراب وافتراش السبع .

[ ص: 6 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا يعلى قال : حدثني عبد الحكم ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : اعتدلوا في الركوع ، والسجود ، ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب .

، وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا سليمان بن حرب ، وعارم قالا : حدثنا مهدي بن ميمون قال : أخبرنا واصل الأحدب ، عن أبي وائل قال : رأى حذيفة رجلا يصلي لا يتم ركوعه ولا سجوده ، فلما انصرف دعاه فقال : مذ كم صليت هذه الصلاة ؟ قال : صليتها منذ كذا وكذا . فقال حذيفة : ما صليت . أو قال : ما صليت لله . وأحسبه قال : وإن مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا حفص بن عمر النمري قال : حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي معمر ، عن أبي مسعود البدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود .

قال أبو عمر :

في حديث أبي هريرة ، ورفاعة بن رافع ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليم الأعرابي : ثم اركع فاعتدل قائما ، ثم اسجد فاعتدل ساجدا ، ثم اجلس فاطمئن جالسا ، ثم اسجد فاعتدل ، فإذا صليت صلاتك على هذا فقد أتممت صلاتك . وقد ذكرنا هذا الخبر في غير موضع من كتابنا ، والحمد لله . واختلف [ ص: 7 ] الفقهاء فيمن صار من الركوع إلى السجود ، ولم يرفع رأسه ، فروى ابن وهب ، عن مالك : أنه لا يجزئه قال : ويلغي تلك الركعة ، ولا يعتد بها من صلاته إن لم يرفع صلبه .

وروى ابن عبد الحكم عنه : إذا رفع رأسه من الركوع ، ثم أهوى ساجدا قبل أن يعتدل ، أنه يجزئه ، وقال ابن القاسم : ومن رفع رأسه من الركوع ، ولم يعتدل قائما حتى خر ساجدا ، فليستغفر الله ولا يعد ، فإن خر من الركوع إلى السجود ولم يرفع شيئا ، فلا يعتد بتلك الركعة ، وهو قول مالك .

قال ابن القاسم : ومن رفع رأسه من السجود فلم يعتدل جالسا حتى سجد أخرى ، فليستغفر الله ، ولا يعد ، ولا شيء عليه في صلاته .

قال ابن القاسم : وأحب إلي في الذي خر من الركعة ساجدا قبل أن يرفع رأسه أن يتمادى مع الإمام ، ثم يعيد الصلاة .

وقال عيسى بن دينار : إن فعل ذلك في الركعة الأولى قطع صلاته وابتدأها ، وإن فعل ذلك في الركعة الثانية جعلها نافلة وسلم ، وإن فعل ذلك في الركعة الثالثة أتم صلاته وجعلها نافلة ، ثم أعادها بتمام ركوعها وسجودها ، وهذا فيمن صلى وحده ، وأما من صلى مع الإمام وفعل مثل ذلك تمادى معه ، ثم أعادها .

قال أبو عمر :

لا معنى للفرق بين الركعة الأولى وغيرها في أثر ولا نظر ، وكذلك لا معنى لقول من صيرها نافلة ، والصواب إلغاء تلك الركعة على ما روى ابن وهب وغيره عن مالك ; لأن الاعتدال فرض كالركوع والسجود ; ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى [ ص: 8 ] تطمئن ساجدا ، ثم اجلس حتى تعتدل جالسا ، وقد ذكرنا هذا الخبر فيما سلف من هذا الكتاب .

، وقال - صلى الله عليه وسلم - : لا تجزئ رجلا صلاته حتى يقيم فيها ظهره في ركوعه وسجوده .

وقال أبو حنيفة فيمن صار من الركوع إلى السجود ، ولم يرفع رأسه : إنه يجزئه ، وقال أبو يوسف : لا يجزئه ، وقال الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود ، والطبري : إذا لم يرفع رأسه من الركوع لم يعتد بتلك الركعة حتى يقوم فيعتدل صلبه قائما .

قال أبو عمر :

أحاديث هذا الباب تدل على صحة هذا القول ، وما روى فيه ابن وهب عن مالك هو الصواب وعليه العلماء ، ورواية ابن عبد الحكم قد روى مثلها ابن القاسم ، ولا أعلم أحدا تقدم إلى هذا القول غير أبي حنيفة ، والأحاديث المرفوعة في هذا الباب ترده ، وبالله التوفيق .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال : حدثنا خالد ، وهو ابن الحارث ، عن ابن أبي ذئب قال : أخبرنا الحارث بن عبد الرحمن ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف ، ويؤمنا بالصافات .

قال أبو عمر :

زاد بعضهم في هذا الحديث " في الصبح " وقد قيل : " في المغرب " ولا حد في إكمال الصلاة وتخفيفها أكثر من الاعتدال في الركوع [ ص: 9 ] والسجود والجلوس ، وأقل ما يجزئ من القراءة فاتحة الكتاب بقراءة تفهم حروفها .

قال ابن القاسم عن مالك في الركوع : إذا أمكن يديه من ركبتيه وإن لم يسبح فهو مجزئ عنه ، وكان لا يوقت تسبيحا .

، وقال الشافعي : أقل ما يجزئ من عمل الصلاة أن يحرم ، ويقرأ بأم القرآن إن أحسنها ، ويركع حتى يطمئن راكعا ، ويرفع حتى يعتدل قائما ، ويسجد حتى يطمئن ساجدا على الجبهة ، ثم يرفع حتى يعتدل جالسا ، ثم يسجد الأخرى كما وصفت ، ثم يقوم حتى يفعل ذلك في كل ركعة ، ويجلس في الرابعة ويتشهد ويصلي على النبي عليه السلام ، ويسلم تسليمة ، يقول : السلام عليكم . فإذا فعل ذلك أجزأته صلاته ، وقد ضيع حظ نفسه فيما ترك .

قال أبو عمر :

أما التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتسليم فيختلف في ذلك ، وقد ذكرناه فيما سلف من كتابنا هذا في مواضع منه ، والحمد لله .

قال أبو عمر :

لا أعلم بين أهل العلم خلافا في استحباب التخفيف لكل من أم قوما على ما شرطنا من الإتيان بأقل ما يجزئ ، والفريضة والنافلة عند جميعهم سواء في استحباب التخفيف فيما إذا صليت جماعة بإمام ، إلا ما جاء في صلاة الكسوف على سنتها على ما قد بينا من مذاهب العلماء في ذلك في باب زيد بن أسلم - والحمد لله .

روى مطرف بن الشخير ، عن عثمان بن أبي العاصي قال : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أؤم الناس وأن أقدرهم بأضعفهم ، فإن فيهم الكبير والسقيم [ ص: 10 ] والضعيف ، وذا الحاجة - ذكره الشافعي عن ابن عيينة ، عن محمد بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي هند ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن عثمان بن أبي العاصي ، وأحسن شيء روي عندي في تخفيف الصلاة ، والتجوز فيها من أجل الحاجة والحادث يعرض ، حديث أنس مع حديث أبي الزناد المذكور في هذا الباب :

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا البخاري قال : حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني لأدخل الصلاة فأريد إطالتها ، فأسمع بكاء صبي فأتجوز ، لما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه .

وحديث أبي قتادة ، حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا ابن شعيب قال : أخبرنا سويد بن نصر قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن الأوزاعي قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله ابن أبي قتادة ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني لأقوم في الصلاة ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه . فإذا جاز التخفيف والتجوز في الصلاة لمثل ما في هذا الحديث ، فكذلك يجوز ويجب من أجل الضعيف والكبير وذي الحاجة ، فكيف وقد ورد فيه النص الثابت ، والحمد لله .

حدثنا محمد بن عبد الملك قال : حدثنا ابن الأعرابي قال : حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل ، عن قيس ، عن أبي مسعود قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني لأتخلف عن صلاة الصبح [ ص: 11 ] مما يطول بنا فلان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن منكم منفرين ، فأيكم أم الناس فليخفف ، فإن فيهم الكبير والسقيم وذا الحاجة .

، وذكر البخاري ، عن محمد بن يوسف الفريابي ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن قيس ، عن أبي مسعود مثله .

، وروى شعبة ، عن محارب بن دثار قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : أقبل رجل من الأنصار ، ومعه ناضحان له ، وقد جنحت الشمس ، ومعاذ يصلي المغرب ، فدخل معه في الصلاة فاستفتح معاذ البقرة أو النساء - محارب الذي يشك - فلما رأى ذلك الرجل صلى ، ثم خرج . قال : فبلغه أن معاذا نال منه . قال : فذكر ذلك للنبي عليه السلام فقال : أفتان يا معاذ ؟ أفتان يا معاذ ؟ هلا قرأت بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) ( والشمس وضحاها ) فإن وراءك الكبير وذا الحاجة والضعيف . ذكره أحمد بن حنبل ، وبندار ، جميعا عن غندر ، عن شعبة .

وحدثناه أحمد بن قاسم ، حدثنا ابن حبابة ، حدثنا البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا شعبة ، فذكره سواء .

وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا تبغضوا الله إلى عباده ، يطول أحدكم في صلاته على من خلفه . في كلام هذا معناه . قرأت على أحمد بن فتح أن عبد الله بن زكرياء النيسابوري حدثهم قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم ، حدثنا [ ص: 12 ] حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني زياد ، عن ابن عجلان قال : حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج قال : حدثني معمر بن أبي حبيبة ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ، عن عمر بن الخطاب أنه قال : أيها الناس لا تبغضوا الله إلى عباده . فقال قائل منهم : وكيف ذلك ؟ قال : يكون الرجل إماما للناس يصلي بهم ، فلا يزال يطول عليهم حتى يبغض إليهم ما هم فيه ، أو يجلس قاصا فلا يزال يطول عليهم حتى يبغض إليهم ما هم فيه .




الخدمات العلمية