الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ( 186 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله : تعالى ذكره : " لتبلون في أموالكم " ، لتختبرن بالمصائب في أموالكم"وأنفسكم ، يعني : وبهلاك الأقرباء والعشائر من [ ص: 455 ] أهل نصرتكم وملتكم" ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، يعني : من اليهود وقولهم : " إن الله فقير ونحن أغنياء " ، وقولهم : " يد الله مغلولة " ، وما أشبه ذلك من افترائهم على الله" ومن الذين أشركوا " ، يعني النصارى "أذى كثيرا" ، والأذى من اليهود ما ذكرنا ، ومن النصارى قولهم : " المسيح ابن الله " ، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله" وإن تصبروا وتتقوا " ، يقول : وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته" وتتقوا" ، يقول : وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم ، فتعملوا في ذلك بطاعته" فإن ذلك من عزم الأمور " ، يقول : فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به .

وقيل : إن ذلك كله نزل في فنحاص اليهودي ، سيد بني قينقاع ، كالذي : -

8316 - حدثنا به القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عكرمة في قوله : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " ، قال : نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي بكر رضوان الله عليه ، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمده ، وكتب إليه بكتاب ، وقال لأبي بكر : "لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع" . فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف ، فأعطاه الكتاب ، فلما قرأه قال : "قد احتاج ربكم أن نمده"! فهم أبو بكر أن يضربه بالسيف ، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع" ، [ ص: 456 ] فكف ، ونزلت : ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم ) . وما بين الآيتين إلى قوله : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم " ، نزلت هذه الآيات في بني قينقاع إلى قوله : " فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك " قال ابن جريج : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم قال : "لتبلون في أموالكم وأنفسكم" ، قال : أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم ، فينظر كيف صبرهم على دينهم . ثم قال : " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، يعني : اليهود والنصارى " ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم : "عزير ابن الله" ، ومن النصارى : "المسيح ابن الله" ، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب إذ يسمعون إشراكهم ، فقال الله : " وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " ، يقول : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به .



وقال آخرون : بل نزلت في كعب بن الأشرف ، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتشبب بنساء المسلمين .

ذكر من قال ذلك :

8317 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : " ولتسمعن من الذين أوتو الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " ، قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم . فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار ، فيهم محمد بن مسلمة ، ورجل [ ص: 457 ] يقال له أبو عبس . فأتوه وهو في مجلس قومه بالعوالي ، فلما رآهم ذعر منهم ، فأنكر شأنهم ، وقالوا : جئناك لحاجة! قال : فليدن إلي بعضكم فليحدثني بحاجته . فجاءه رجل منهم فقال : جئناك لنبيعك أدراعا عندنا لنستنفق بها . فقال : والله لئن فعلتم لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل! فواعدوه أن يأتوه عشاء حين هدأ عنهم الناس ، فأتوه فنادوه ، فقالت امرأته : ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب! قال : إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم .

قال معمر : فأخبرني أيوب ، عن عكرمة : أنه أشرف عليهم فكلمهم ، فقال : أترهنوني أبناءكم؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرا . قال : فقالوا : إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال : "هذا رهينة وسق ، وهذا رهينة وسقين"! فقال : أترهنوني نساءكم؟ قالوا : أنت أجمل الناس ، ولا نأمنك! وأي امرأة تمتنع منك لجمالك! ولكنا نرهنك سلاحنا ، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم . فقال : ائتوني بسلاحكم ، واحتملوا ما شئتم . قالوا : فانزل إلينا نأخذ عليك وتأخذ علينا . فذهب ينزل ، [ ص: 458 ] فتعلقت به امرأته وقالت : أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك . قال : لو وجدني هؤلاء نائما ما أيقظوني! قالت : فكلمهم من فوق البيت ، فأبى عليها ، فنزل إليهم يفوح ريحه . قالوا : ما هذه الريح يا فلان؟ قال : هذا عطر أم فلان! امرأته . فدنا إليه بعضهم يشم رائحته ، ثم اعتنقه ، ثم قال : اقتلوا عدو الله! فطعنه أبو عبس في خاصرته ، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف ، فقتلوه ثم رجعوا . فأصبحت اليهود مذعورين ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : قتل سيدنا غيلة! فذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه ، وما كان يحض عليهم ، ويحرض في قتالهم ويؤذيهم ، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحا ، قال : فكان ذلك الكتاب مع علي رضوان الله عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية