الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 336 ] ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها خرجت طائفة يقال لهم : الراوندية . على المنصور .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر ابن جرير عن المدائني أن أصلهم من خراسان ، وهم على رأي أبي مسلم الخراساني ، كانوا يقولون بالتناسخ ، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى عثمان بن نهيك ، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم أبو جعفر المنصور ، وأن الهيثم بن معاوية جبريل . قبحهم الله تعالى . قال : فأتوا يوما قصر المنصور ، فجعلوا يطوفون به ويقولون : هذا قصر ربنا . فأرسل المنصور إلى رؤسائهم ، فحبس منهم مائتين ، فغضبوا من ذلك وقالوا : علام تحبسهم؟ ثم عمدوا إلى نعش ، فحملوه على كواهلهم ، وليس عليه أحد واجتمعوا حوله ، كأنهم يشيعون جنازة ، فاجتازوا بباب السجن ، فألقوا النعش ودخلوا السجن قهرا ، واستخرجوا من فيه من أصحابهم ، وقصدوا نحو المنصور وهم في ستمائة ، فتنادى الناس ، وغلقت أبواب البلد ، وخرج المنصور من القصر ماشيا; لأنه لم يكن في القصر دابة يركبها ، ثم جيء بدابة فركبها وقصد نحو الراوندية ، وجاء الناس من كل ناحية ، وجاء معن بن زائدة ، فلما رأى أمير المؤمنين ترجل وأخذ بلجام دابة المنصور ، وقال : يا أمير المؤمنين ، ارجع ونحن نكفيكهم . فأبى ، وقام أهل [ ص: 337 ] السوق إليهم فقاتلوهم ، وجاءت الجيوش فالتفوا عليهم من كل ناحية ، فحصدوهم عن آخرهم ، ولم يبق منهم بقية ، وجرحوا عثمان بن نهيك بسهم بين كتفيه فمرض أياما ثم مات ، فولي الصلاة عليه الخليفة المنصور ، وقام على قبره حتى دفن ، ودعا له ، وولى أخاه عيسى بن نهيك على الحرس ، وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية من الكوفة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما فرغ المنصور من قتال الراوندية ذلك اليوم صلى بالناس الظهر في آخر وقتها ، ثم أتي بالطعام فقال : أين معن بن زائدة؟ وأمسك عن الطعام حتى جاء معن ، فأجلسه إلى جانبه ، ثم أخذ في شكره لمن بحضرته; لما رأى من شهامته يومئذ ، فقال معن : والله يا أمير المؤمنين ، لقد جئت وإني لوجل ، فلما رأيت استهانتك بهم وإقدامك عليهم قوي قلبي بذلك ، وما ظننت أن أحدا يكون في الحرب هكذا ، فذاك الذي شجعني يا أمير المؤمنين . فأمر له المنصور بعشرة آلاف ، ورضي عنه ، وولاه اليمن ، وكان معن بن زائدة قبل ذلك مختفيا; لأنه قاتل المسودة مع ابن هبيرة ، فلم يظهر إلا في هذا اليوم . فلما رأى الخليفة صدقه في قتاله رضي عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويقال : إن المنصور قال : أخطأت في ثلاث; قتلت أبا مسلم وأنا في جماعة قليلة ، وحين خرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق لذهبت الخلافة ، ويوم الراوندية لو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا . وهذا من حزمه وصرامته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة ولى المنصور ابنه محمدا المهدي ولي عهده من بعده ، بلاد [ ص: 338 ] خراسان ، وعزل عنها عبد الجبار بن عبد الرحمن ، وذلك أنه قتل خلقا من شيعة الخليفة ، فشكاه المنصور إلى أبي أيوب الخوزي كاتب الرسائل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، اكتب إليه ليبعث جيشا من خراسان لغزو الروم ، فإذا خرجوا من عنده بعثت إليه من شئت فأخرجوه منها ذليلا ليس عنده كثير أحد . فكتب إليه المنصور بذلك ، فرد الجواب بأن بلاد خراسان قد عاثت بها الأتراك ، ومتى خرج منها جيش فسد أمرها . فقال المنصور لأبي أيوب : ماذا ترى؟ قال : فاكتب إليه بأن بلاد خراسان أحق بالمدد من غيرها ، وقد جهزت إليك بالجنود فأجاب بأن بلاد خراسان في هذا العام مضيقة أقواتها ، ومتى دخلها جيش أفسدها . فقال الخليفة لأبي أيوب : ما تقول؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا رجل قد أبدى صفحته وخلع ، فلا تناظره . فحينئذ بعث المنصور ابنه محمدا المهدي ليقيم بالري ، وبعث المهدي خازم بن خزيمة مقدمة بين يديه إلى عبد الجبار ، فما زالوا عليه حتى هزموا من معه ، وأخذوه فأركبوه بعيرا محولا وجهه إلى ناحية ذنب البعير ، وسيروه كذلك في البلاد حتى أقدموه على المنصور ، ومعه ابنه وجماعة من أهله ، فضرب المنصور عنقه ، وسير ابنه ومن معه من أهله إلى جزيرة دهلك في طرف اليمن ، فأسرتهم الهنود بعد ذلك ، ثم فودي بعضهم بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واستقر المهدي نائبا بخراسان ، وأمره أبوه أن يغزو طبرستان ، وأن يحارب الأصبهبذ بمن معه من الجنود ، وأمده بجيش عليهم عمر بن العلاء ، وكان من أعلم الناس بحرب طبرستان ، وهو الذي يقول فيه بشار الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقل للخليفة إن جئته نصيحا ولا خير في المتهم [ ص: 339 ]     إذا أيقظتك حروب العدا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فنبه لها عمرا ثم نم     فتى لا ينام على دمنة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولا يشرب الماء إلا بدم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما تواقفت الجيوش على طبرستان ، فتحوها وحصروا الأصبهبذ حتى ألجئوه إلى قلعته ، فصالحهم على ما فيها من الذخائر ، وكتب المهدي إلى أبيه بذلك ، ودخل الأصبهبذ بلاد الديلم ، فمات هناك ، وكسروا أيضا ملك الترك الذي يقال له : المصمغان . وأسروا أمما من الذراري ، فهذا فتح طبرستان الأول .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة فرغ من بناء المصيصة على يدي جبرئيل بن يحيى الخراساني .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها رابط محمد بن إبراهيم الإمام ببلاد ملطية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها عزل زياد بن عبيد الله عن إمرة الحجاز ، وولي المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري ، فقدمها في رجب ، وولي مكة والطائف الهيثم بن معاوية العتكي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي موسى بن كعب ، وهو على شرطة المنصور وعلى مصر والهند ، ونائبه في الهند ابنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ولي مصر محمد بن الأشعث ثم عزل ، وولي عليها نوفل بن الفرات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس فيها صالح بن علي ، وهو نائب قنسرين وحمص ودمشق ، [ ص: 340 ] وبقية البلاد عليها من ذكرنا في التي قبلها . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي أبان بن تغلب ، وموسى بن عقبة صاحب المغازي ، وأبو إسحاق الشيباني في قول . والله سبحانه أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية