الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون .

هذا ابتداء غرض من أغراض معاملة المشركين ، وهو منع المشركين من دخول المسجد الحرام في العام القابل ، وهو مرتبط بما تضمنته البراءة في قوله : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ولما اتصل بتلك الآية من بيان النبيء - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسل به مع أبي بكر الصديق : أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . وهو توطئة لقوله : يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .

وتركيب ما كان لهم أن يفعلوا يدل على أنهم بعداء من ذلك ، كما تقدم عند قوله - تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة في سورة آل عمران ، أي ليسوا بأهل لأن يعمروا مساجد الله بما تعمر به من العبادات .

[ ص: 140 ] و مساجد الله مواضع عبادته بالسجود والركوع : المراد المسجد الحرام وما يتبعه من المسعى ، وعرفة ، والمشعر الحرام ، والجمرات ، والمنحر من منى .

وعمر المساجد : العبادة فيها لأنها إنما وضعت للعبادة ، فعمرها بمن يحل فيها من المتعبدين ، ومن ذلك اشتقت العمرة ، والمعنى : ما يحق للمشركين أن يعبدوا الله في مساجد الله . وإناطة هذا النفي بهم بوصف كونهم مشركين : إيماء إلى أن الشرك موجب لحرمانهم من عمارة مساجد الله .

وقد جاء الحال في قوله : شاهدين على أنفسهم بالكفر مبينا لسبب براءتهم من أن يعمروا مساجد الله ، وهو حال من ضمير يعمروا فبين عامل الضمير وهو يعمروا الداخل في حكم الانتفاء ، أي : انتفى تأهلهم لأن يعمروا مساجد الله بحال شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، فكان لهذه الحال مزيد اختصاص بهذا الحرمان الخاص من عمارة مساجد الله ، وهو الحرمان الذي لا استحقاق بعده .

والمراد بالكفر : الكفر بالله ، أي بوحدانيته ، فالكفر مرادف للشرك ، فالكفر في حد ذاته موجب للحرمان من عمارة أصحابه مساجد الله ; لأنها مساجد الله فلا حق لغير الله فيها ، ثم هي قد أقيمت لعبادة الله لا لغيره ، وأقام إبراهيم - عليه السلام - أول مسجد وهو الكعبة عنوانا على التوحيد ، وإعلانا به ، كما تقدم في قوله - تعالى : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا في سورة آل عمران ، فهذه أول درجة من الحرمان . ثم كون كفرهم حاصلا باعترافهم به موجب لانتفاء أقل حظ من هذه العمارة ، وللبراءة من استحقاقها ، وهذه درجة ثانية من الحرمان .

وشهادتهم على أنفسهم بالكفر حاصلة في كثير من أقوالهم وأعمالهم ، بحيث لا يستطيعون إنكار ذلك ، مثل قولهم في التلبية " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك " ، ومثل سجودهم للأصنام ، وطوافهم بها ، ووضعهم إياها في جوف الكعبة وحولها وعلى سطحها .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بإفراد " مسجد الله " ، أي المسجد الحرام وهو المقصود ، أو التعريف بالإضافة للجنس . وقرأ الباقون : مساجد الله ، فيعم المسجد الحرام وما عددناه معه آنفا .

[ ص: 141 ] وجملة أولئك حبطت أعمالهم ابتداء ذم لهم ، وجيء باسم الإشارة لأنهم قد تميزوا بوصف الشهادة على أنفسهم بالكفر كما في قوله : أولئك على هدى من ربهم بعد قوله : هدى للمتقين الآية .

وحبطت بطلت ، وقد تقدم في قوله - تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة في سورة البقرة .

وتقديم في النار على خالدون للرعاية على الفاصلة ويحصل منه تعجيل المساءة للكفار إذا سمعوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية