الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله عطف على جملة براءة من الله ورسوله وموقع لفظ " أذان " كموقع لفظ " براءة " في التقدير ، وهذا إعلام للمشركين الذين لهم عهد بأن عهدهم انتقض .

والأذان اسم مصدر آذنه : إذا أعلمه بإعلان ، مثل العطاء بمعنى الإعطاء ، والأمان بمعنى الإيمان ، فهو بمعنى الإيذان .

[ ص: 108 ] وإضافة الأذان إلى الله ورسوله دون المسلمين ; لأنه تشريع وحكم في مصالح الأمة ، فلا يكون إلا من الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أمر للمسلمين بأن يأذنوا المشركين بهذه البراءة ، لئلا يكونوا غادرين ، كما قال تعالى : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . والمراد بالناس جميع الناس من مؤمنين ومشركين لأن العلم بهذا النداء يهم الناس كلهم .

ويوم الحج الأكبر : قيل هو يوم عرفة ; لأنه يوم مجتمع الناس في صعيد واحد وهذا يروى عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس ، وطاوس ، ومجاهد ، وابن سيرين . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي وفي الحديث الحج عرفة .

وقيل : هو يوم النحر لأن الناس كانوا في يوم موقف عرفة مفترقين إذ كانت الحمس يقفون بالمزدلفة ، ويقف بقية الناس بعرفة ، وكانوا جميعا يحضرون منى يوم النحر ، فكان ذلك الاجتماع الأكبر ، ونسب ابن عطية هذا التعليل إلى منذر بن سعيد . وهذا قول علي ، وابن عمر ، وابن مسعود ، والمغيرة بن شعبة ، وابن عباس أيضا ، وابن أبي أوفى ، والزهري ، ورواه ابن وهب عن مالك ، قال مالك : لا نشك أن يوم الحج الأكبر يوم النحر لأنه اليوم الذي ترمى فيه الجمرة ، وينحر فيه الهدي ، وينقضي فيه الحج ، من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرك الحج . وأقول أن يوم عرفة يوم شغل بعبادة من وقوف بالموقف ومن سماع الخطبة . فأما يوم منى فيوم عيدهم .

و " الأكبر " بالجر نعت للحج ، باعتبار تجزئته إلى أعمال ، فوصف الأعظم من تلك الأعمال بالأكبر ويظهر من اختلافهم في المراد من الحج الأكبر أن هذا اللفظ لم يكن معروفا قبل نزول هذه الآية فمن ثم اختلف السلف في المراد منه .

وهذا الكلام إنشاء لهذا الأذان ، موقتا بيوم الحج الأكبر ، فيؤول إلى معنى الأمر ، إذ المعنى : آذنوا الناس يوم الحج الأكبر بأن الله ورسوله بريئان من المشركين .

[ ص: 109 ] والمراد بـ " الناس " جميع الناس الذين ضمهم الموسم ، ومن يبلغه ذلك منهم : مؤمنهم ومشركهم . لأن هذا الأذان مما يجب أن يعلمه المسلم والمشرك ، إذ كان حكمه يلزم الفريقين .

وقوله : أن الله بريء من المشركين يتعلق بـ " أذان " بحذف حرف الجر وهو باء التعدية أي إعلام بهذه البراءة المتقدمة في قوله : براءة من الله ورسوله فإعادتها هنا لأن هذا الإعلام للمشركين المعاهدين وغيرهم ، تقريرا لعدم غدر المسلمين ، والآية المتقدمة إعلام للمسلمين .

وجاء التصريح بفعل البراءة مرة ثانية دون إضمار ولا اختصار بأن يقال : وأذان إلى الناس بذلك ، أو بها ، أو بالبراءة : لأن المقام مقام بيان وإطناب لأجل اختلاف أفهام السامعين فيما يسمعونه ، ففيهم الذكي والغبي ، ففي الإطناب والإيضاح قطع لمعاذيرهم واستقصاء في الإبلاغ لهم .

وعطف ورسوله بالرفع ، عند القراء كلهم : لأنه من عطف الجملة ; لأن السامع يعلم من الرفع أن تقديره : ورسوله بريء من المشركين ، ففي هذا الرفع معنى بليغ من الإيضاح للمعنى مع الإيجاز في اللفظ ، وهذه نكتة قرآنية بليغة ، وقد اهتدى بها ضابئ بن الحارث في قوله :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بهـا لـغـريب

برفع " قيار " لأنه أراد أن يجعل غربة جمله المسمى " قيارا " غربة أخرى غير تابعة لغربته .

ومما يجب التنبيه له : ما في بعض التفاسير أنه روي عن الحسن قراءة ورسوله بالجر ولم تصح نسبتها إلى الحسن ، وكيف يتصور جر ورسوله ولا عامل يقتضي جره ، ولكنها ذات قصة طريفة : أن أعرابيا سمع رجلا قرأ أن الله بريء من المشركين ورسوله بجر " ورسوله " فقال الأعرابي : إن كان الله بريئا من رسوله فأنا منه بريء . وإنما أراد التورك على القارئ ، فلببه الرجل إلى عمر فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعلم العربية ، وروي أيضا أن أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع [ ص: 110 ] الأمر إلى علي . فكان ذلك سبب وضع النحو ، وقد ذكرت هذه القصة في بعض كتب النحو في ذكر سبب وضع علم النحو .

وهذا الأذان قد وقع في الحجة التي حجها أبو بكر بالناس ، إذ ألحق رسول الله - عليه الصلاة والسلام - علي بن أبي طالب بأبي بكر ، موافيا الموسم ليؤذن بـ " براءة " فأذن بها علي يوم النحر بمنى ، من أولها إلى ثلاثين أو أربعين آية منها . كذا ثبت في الصحيح والسنن بطرق مختلفة يزيد بعضها على بعض . ولعل قوله : أو أربعين آية . شك من الراوي ، فما ورد في رواية النسائي ، أي عن جابر : أن عليا قرأ على الناس " براءة " حتى ختمها ، فلعل معناه حتى ختم ما نزل منها مما يتعلق بالبراءة من المشركين ; لأن سورة " براءة " لم يتم نزولها يومئذ ، فقد ثبت أن آخر آية نزلت على النبيء - صلى الله عليه وسلم - هي آخر آية من سورة " براءة " .

وإنما ألحق النبيء - عليه الصلاة والسلام - علي بن أبي طالب بأبي بكر الصديق لأنه قيل لرسول الله أن العرب لا يرون أن ينقض أحد عهده مع من عاهده إلا بنفسه أو برسول من ذي قرابة نسبه ، فأراد النبيء - عليه الصلاة والسلام - أن لا يترك للمشركين عذرا في علمهم بنبذ العهد الذي بينه وبينهم .

وروي : أن عليا بعث أبا هريرة يطوف في منازل قبائل العرب من منى ، يصيح بآيات " براءة " حتى صحل صوته . وكان المشركون إذا سمعوا ذلك يقولون لعلي سترون بعد الأربعة الأشهر فإنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية