الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 496 ] الحديث العشرون

عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت رواه البخاري .

التالي السابق


هذا الحديث خرجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش ، عن أبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأظن مسلما لم يخرجه ، لأنه قد رواه قوم ، فقالوا : عن ربعي ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فاختلف في إسناده ، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأن القول قول من قال : عن أبي مسعود ، منهم البخاري ، وأبو زرعة الرازي ، والدارقطني وغيرهم ، ويدل على صحة ذلك [ ص: 497 ] أنه قد روي من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه .

وخرجه الطبراني من حديث أبي الطفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا .

فقوله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين ، وأن الناس تداولوه بينهم ، وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن ، وهذا يدل على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام ، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة . وفي بعض الروايات قال : " لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا " . خرجها حميد بن زنجويه وغيره .

وقوله " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " في معناه قولان : أحدهما : أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء ، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه ، وأهل هذه المقالة لهم طريقان :

أحدهما : أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد ، والمعنى : إذا لم يكن حياء ، فاعمل ما شئت ، فالله يجازيك عليه ، كقوله : اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير [ فصلت : 40 ] ، وقوله : فاعبدوا ما شئتم من دونه [ الزمر : 15 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من باع الخمر ، فليشقص الخنازير " يعني ليقطعها إما لبيعها [ ص: 498 ] أو لأكلها ، وأمثلته متعددة ، وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس بن ثعلب .

والطريق الثاني : أنه أمر ، ومعناه الخبر ، والمعنى : أن من لم يستحي ، صنع ما شاء ، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء ، فمن لم يكن له حياء ، انهمك في كل فحشاء ومنكر ، وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله صلى الله عليه وسلم : من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ، فإن لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار ، وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله ، وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي ، وغيرهم ، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول .

وروى ابن أبي لهيعة عن أبي قبيل ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أبغض الله عبدا ، نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا بغيضا متبغضا ، ونزع منه الأمانة ، فإذا نزع منه الأمانة ، نزع منه الرحمة ، وإذا نزع منه الرحمة ، نزع منه ربقة الإسلام ، فإذا نزع منه ربقة الإسلام ، لم تلقه إلا شيطانا مريدا " . خرجه حميد بن زنجويه ، وخرجه ابن ماجه بمعناه بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا أيضا .

وعن سلمان الفارسي قال : إن الله إذا أراد بعبد هلاكا ، نزع منه الحياء ، فإذا [ ص: 499 ] نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا مقيتا ممقتا ، فإذا كان مقيتا ممقتا ، نزع منه الأمانة ، فلم تلقه إلا خائنا مخونا ، فإذا كان خائنا مخونا ، نزع منه الرحمة ، فلم تلقه إلا فظا غليظا ، فإذا كان فظا غليظا ، نزع ربق الإيمان من عنقه ، فإذا نزع ربق الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانا لعينا ملعنا .

وعن ابن عباس قال : الحياء والإيمان في قرن ، فإذا نزع الحياء ، تبعه الآخر . خرجه كله حميد بن زنجويه في كتاب " الأدب " .

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحياء من الإيمان كما في " الصحيحين " عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول : إنك لتستحيي ، كأنه يقول : قد أضر بك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه فإن الحياء من الإيمان . [ ص: 500 ] وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة قال : " الحياء شعبة من الإيمان " .

وفي " الصحيحين " عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحياء لا يأتي إلا بخير وفي رواية لمسلم قال : " الحياء خير كله " ، أو قال : " الحياء كله خير " .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث الأشج العصري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فيك لخلقين يحبهما الله " ، قلت : ما هما ؟ قال : " الحلم والحياء " قلت : أقديما كان أو حديثا ؟ قال " بل قديما " قلت : الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبهما الله .

وقال : إسماعيل بن أبي خالد دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل فاستسقى ، فأتى بماء فشرب ، فستره النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا ؟ قال : [ ص: 501 ] " الحياء خلة أوتوها ومنعتموها " .

واعلم أن الحياء نوعان : أحدهما : ما كان خلقا وجبلة غير مكتسب ، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الحياء لا يأتي إلا بخير " فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها ، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من استحيا ، اختفى ، ومن اختفى ، اتقى ، ومن اتقى وقي .

وقال الجراح بن عبد الله الحكمي - وكان فارس أهل الشام - : تركت الذنوب حياء أربعين سنة ، ثم أدركني الورع . وعن بعضهم قال : رأيت المعاصي نذالة ، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة .

النوع الثاني : ما كان مكتسبا من معرفة الله ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده ، واطلاعه عليهم ، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فهذا من أعلى خصال الإيمان ، بل هو من أعلى درجات الإحسان ، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " استحي من الله كما تستحيي رجلا من صالح عشيرتك " .

وفي حديث ابن مسعود : " الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى ؛ ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله " خرجه الإمام أحمد والترمذي مرفوعا . [ ص: 502 ] وقد يتولد من الله الحياء من مطالعة نعمه ورؤية التقصير في شكرها ، فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي ، لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح ، والأخلاق الدنيئة ، فصار كأنه لا إيمان له . وقد روي من مراسيل الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحياء حياءان : طرف من الإيمان ، والآخر عجز " ولعله من كلام الحسن ، وكذلك قال بشير بن كعب العدوي لعمران بن حصين : إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارا لله ، ومنه ضعف ، فغضب عمران وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه ؟ والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه ، فإن الحياء الممدوح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل ، وترك القبيح ، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده ، فليس هو من الحياء ، إنما هو ضعف وخور ، وعجز ومهانة ، والله أعلم . [ ص: 503 ] والقول الثاني : في معنى قوله : " إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت " أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه ، وأن المعنى : إذا كان الذي تريد فعله مما لا يستحيا من فعله لا من الله ولا من الناس ، لكونه من أفعال الطاعات ، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة ، فاصنع منه حينئذ ما شئت ، وهذا قول جماعة من الأئمة ، منهم إسحاق المروزي الشافعي ، وحكي مثله عن الإمام أحمد ، ووقع كذلك في بعض نسخ " مسائل أبي داود " المختصرة عنه ، ولكن الذي في النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبل ، وكذلك حكاه عنه الخلال في كتاب " الأدب " ، ومن هذا قول بعض السلف - وقد سئل عن المروءة - فقال : أن لا تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية ، وسيأتي قول النبي صلى الله عليه وسلم : الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

وروى عبد الرازق في كتابه عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل من مزينة قال : قيل : يا رسول الله ، ما أفضل ما أوتي الرجل المسلم ؟ قال : " الخلق الحسن " قال : فما شر ما أوتي المسلم ؟ قال : " إذا كرهت أن يرى عليك شيء في نادي القوم ، فلا تفعله إذا خلوت " .

وفي " صحيح ابن حبان " عن أسامة بن شريك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كره منك شيئا ، فلا تفعله إذا خلوت " .

وخرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري قال : قلت : يا رسول الله [ ص: 504 ] ما تمام البر ؟ قال : " أن تعمل في السر عمل العلانية " . وخرجه أيضا من حديث أبي عامر السكوني ، قال : قلت : يا رسول الله ، فذكره .

وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ في كتاب " أدب المحدث " بإسناده عن حرملة بن عبد الله ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأزداد من العلم ، فقمت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، ما تأمرني أن أعمل به ؟ قال : " ائت المعروف ، واجتنب المنكر ، وانظر الذي سمعته أذنك من الخير يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فأته ، وانظر الذي تكره أن يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم ، فاجتنبه " قال : فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئا : إتيان المعروف ، واجتناب المنكر .

وخرج ابن سعد في " طبقاته " بمعناه .

وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولا آخر حكاه عن جرير : قال معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير ، فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف الرياء ، يقول : فلا يمنعنك الحياء من المضي لما أردت ، كما جاء في الحديث : " إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي ، فقال : إنك ترائي ، فزدها طولا " ثم قال أبو عبيد : وهذا [ ص: 505 ] الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير ، ولا على هذا يحمله الناس .

قلت : لو كان على ما قاله جرير ، لكان لفظ الحديث : إذا استحييت مما لا يستحيا منه ، فافعل ما شئت ، ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه ، والله أعلم .



الخدمات العلمية