الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
33 [ ص: 220 ] حديث ثان وعشرون لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم ليستنثر ، ومن استجمر فليوتر .

التالي السابق


هكذا رواه يحيى " فليجعل في أنفه ثم ليستنثر " ولم يقل ماء ، وهو مفهوم من الخطاب ، وهكذا وجدناه عند جماعة شيوخنا إلا فيما حدثناه أحمد بن محمد ، عن أحمد بن مطرف ، عن عبيد الله بن يحيى ، عن أبيه ، فإنه قال فيه : فليجعل في أنفه ماء .

وأما القعنبي فلم يقل ماء في رواية علي بن عبد العزيز ، عن القعنبي .

ورواه أبو داود ، عن القعنبي ، فقال فيه : فليجعل في أنفه ماء ، وكذلك رواية ابن بكير ، ومعن ، وجماعة ، عن [ ص: 221 ] مالك : فليجعل في أنفه ماء ، وعند أكثر الرواة هو هكذا : فليجعل في أنفه ماء .

وقال أبو خليفة : الفضل بن حباب القاضي البصري ، عن القعنبي في هذا الحديث : فليجعل في أنفه ماء ، وهذا كله معنى واحد ، والمراد مفهوم ، ورواية ورقاء لهذا الحديث ، عن أبي الزناد كما روى يحيى ، عن مالك لم يقل ماء .

قرأت على عبد الله بن محمد بن يوسف أن عبيد الله بن محمد بن أبي غالب حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن محمد بن بدر الباهلي ، قال : حدثنا رزق الله بن موسى ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء بن عمر اليشكري ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أحدكم توضأ فليجعل في أنفه ثم يستنثر .

قال أبو عمر : في هذا الحديث الأمر بالاستنثار بالماء عند الوضوء ، وذلك دفع الماء بريح الأنف بعد الاستنشاق ، والاستنشاق أخذ الماء بريح الأنف من الكف ، والاستنثار دفعه ، ومحال أن يدفعه من لم يأخذه ، ففي الأمر بالاستنثار أمر بالاستنشاق فافهم ، وعلى ما وصفت لك في الاستنشاق والاستنثار جمهور العلماء ، وأصل هذه اللفظة في اللغة القذف ، يقال : نثر [ ص: 222 ] واستنثر بمعنى واحد ، وذلك إذا قذف من أنفه ما استنشق مثل الامتخاط ، ويقال : الجراد نثرة حوت ، أي قذف به من أنفه ، وقد روى ابن القاسم ، وابن وهب ، عن مالك ، قال : الاستنثار أن يجعل يده على أنفه ويستنثر ، قيل لمالك : أيستنثر من غير أن يضع يده على أنفه ؟ فأنكر ذلك ، وقال : إنما يفعل ذلك الحمار ، وسئل مالك عن المضمضة والاستنثار مرة أم مرتين أم ثلاثا ؟ فقال : ما أبالي أي ذلك فعلت ، وكل ذلك جائز عند مالك وجميع أصحابه أن يتمضمض ويستنثر من غرفة واحدة .

قال أبو عمر : أما لفظ الاستنشاق ، فلا يكاد يوجد الأمر به إلا في رواية همام ، عن أبي هريرة ، وفي حديث أبي رزين العقيلي واسمه لقيط بن صبرة ، ويوجد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمضمض واستنشق من حديث عثمان ، وعلي ، وعائشة ، وغيرهم من وجوه .

وأما لفظ الاستنثار ، فمحفوظ الأمر به من حديث ابن عباس ، ومن طريق أبي هريرة من رواية أبي إدريس الخولاني ، والأعرج ، وعيسى بن طلحة ، وغيرهم ، عن أبي هريرة ، وقد ذكرنا خبر أبي إدريس الخولاني في باب ابن شهاب من كتابنا هذا ، وذكرنا هناك الحكم في الاستجمار ، وما للعلماء في [ ص: 223 ] ذلك من الوجوه والاختيار ، وذكرنا أقوالهم في الاستنثار في باب زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن الصنابحي من كتابنا هذا ، ونزيد القول هاهنا بيانا في ذلك إن شاء الله .

حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يحيى بن سليم ، عن إسماعيل بن كثير ، عن عاصم بن لقيط ، عن أبيه ، قال : قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء ، قال : أسبغ الوضوء ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ورواه الثوري ، عن أبي هاشم ، عن عاصم بإسناده مثله .

ورواه ابن جريج ، عن إسماعيل بن كثير بإسناده مثله .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا ابن أبي ذئب ، عن قارظ بن شيبة ، عن أبي غطفان ، قال : دخلت على ابن عباس فوجدته يتوضأ فمضمض واستنثر ثم قال : قال رسول [ ص: 224 ] الله - صلى الله عليه وسلم - : استنثروا اثنتين بالغتين أو ثلاثا ، وذكره أبو داود ، عن إبراهيم بن موسى ، عن وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن قارظ ، عن أبي غطفان ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : استنثروا مرتين بالغتين .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن سلمة بن قيس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استنشقت فانثر ، وإذا استجمرت فأوتر .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أبو إسماعيل ، قال : حدثنا نعيم ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره من الماء ثم لينثره .

[ ص: 225 ] قال أبو عمر : هذا أبين حديث في الاستنشاق والاستنثار ، وأصحها إسنادا ، وأجمع المسلمون طرا أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء ، وكذلك المضمضة ومسح الأذنين .

واختلفوا فيمن ترك ذلك ناسيا أو عامدا ، فكان أحمد بن حنبل يذهب إلى أن من ترك الاستنثار في الوضوء ناسيا أو عامدا أعاد الوضوء والصلاة ، وبه قال أبو ثور ، وأبو عبيد في الاستنثار خاصة ، وهو قول داود في الاستنثار خاصة أيضا ، وكان أبو حنيفة ، والثوري ، وأصحابهما يذهبون إلى إيجاب المضمضة والاستنشاق في الجنابة دون الوضوء ، وكانت طائفة توجبهما في الوضوء والجنابة ، وقد تقدم ذكرهم في باب زيد بن أسلم .

وأما مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأكثر أهل العلم ، فإنهم ذهبوا إلى أن لا فرض في الوضوء واجب إلا ما ذكره الله عز وجل في القرآن ، وذلك غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس ، وغسل الرجلين ، وقد مضى القول في أحكام المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين مستوعبا ممهدا بعلله ، وأوضحنا وجوه الأقاويل فيه عند ذكر حديث الصنابحي في باب زيد بن أسلم وذكرنا أحكام الاستجمار والاستنجاء بالأحجار في باب ابن شهاب عن [ ص: 226 ] أبي إدريس من كتابنا هذا ، والحمد لله .

والذي يتحصل من مذهب مالك أن الوتر في الاستجمار ليس بواجب ، ولكنه مندوب إليه سنة ، وقد تابع مالكا على هذا جماعة قد ذكرناهم في باب ابن شهاب عن أبي إدريس من هذا الكتاب ، وذكرنا الحجة من جهة الأثر والنظر لهم ولمن خالفهم هناك ، والحمد لله .

وقد كان ابن عمر يستحب الوتر في تجمير ثيابه ، وكان يستعمل العموم في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ومن استجمر فليوتر ، فكان يستجمر بالأحجار وترا ، وكان يجمر ثيابه وترا تأسيا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومستعملا عموم الخطاب ، والله الموفق للصواب .

وقد جاء في الأثر المرفوع : إن الله وتر يحب الوتر .




الخدمات العلمية