الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون معطوفة على جملة " وهم يصدون عن المسجد الحرام " فمضمونها سبب ثان لاستحقاقهم العذاب ، وموقعها عقب جملة " وما كانوا أولياءه " يجعلها كالدليل المقرر لانتفاء ولايتهم للمسجد الحرام ، لأن من كان يفعل مثل هذا عند مسجد الله لم يكن من المتقين ، فكان حقيقا بسلب ولاية المسجد عنه ، فعطفت الجملة باعتبارها سببا للعذاب ، ولو فصلت باعتبارها مقررة لسلب أهلية الولاية عنهم لصح ذلك ، ولكن كان الاعتبار الأول أرجح لأن العطف أدل عليه مع كون موقعها يفيد الاعتبار الثاني .

والمكاء على صيغة مصادر الأصوات كالرغاء والثغاء والبكاء والنواح . يقال : مكا يمكو إذا صفر بفيه ومنه سمي نوع من الطير المكاء بفتح الميم وتشديد الكاف وجمعه مكاكيء بهمزة في آخره بعد الياء وهو طائر أبيض يكون بالحجاز .

[ ص: 339 ] وعن الأصمعي قلت لمنتجع بن نبهان ما " تمكو " فشبك بين أصابعه ثم وضعها على فمه ونفخ .

والتصدية التصفيق مشتقا من الصدى وهو الصوت الذي يرده الهواء محاكيا لصوت صالح في البراح من جهة مقابلة .

ولا تعرف للمشركين صلاة فتسمية مكائهم وتصديتهم صلاة مشاكلة تقديرية لأنهم لما صدوا المسلمين عن الصلاة وقراءة القرآن في المسجد الحرام عند البيت ، كان من جملة طرائق صدهم إياهم تشغيبهم عليهم وسخريتهم بهم يحاكون قراءة المسلمين وصلاتهم بالمكاء والتصدية ، قال مجاهد : فعل ذلك نفر من بني عبد الدار يخلطون على محمد صلاته ، وبنو عبد الدار هم سدنة الكعبة وأهل عمارة المسجد الحرام ، فلما فعلوا ذلك للاستسخار من الصلاة سمي فعلهم ذلك صلاة على طريقة المشاكلة التقديرية ، والمشاكلة ترجع إلى استعارة علاقتها المشاكلة اللفظية أو التقديرية ، فلم تكن للمشركين صلاة بالمكاء والتصدية ، وهذا الذي نحاه حذاق المفسرين : مجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، ويؤيد هذا قوله " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " لأن شأن التفريع أن يكون جزاء على العمل المحكي قبله ، والمكاء والتصدية لا يعدان كفرا إلا إذا كانا صادرين للسخرية بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - وبالدين ، وأما لو أريد مجرد لهو عملوه في المسجد الحرام فليس بمقتض كونه كفرا إلا على تأويله بأثر من آثار الكفر كقوله - تعالى - إنما النسي زيادة في الكفر .

ومن المفسرين من ذكر أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويمكون ويصفقون . روي عن ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفقون ويصفرون وعليه فإطلاق الصلاة على المكاء والتصدية مجاز مرسل ، قال طلحة بن عمرو : أراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قبيس ، فإذا صح الذي قاله طلحة بن عمرو هذا فالعندية في قوله " عند البيت " بمعنى مطلق المقاربة وليست على حقيقة ما يفيده " عند " من شدة القرب .

ودل قوله " فذوقوا العذاب " على عذاب واقع بهم ، إذ الأمر هنا للتوبيخ والتغليط وذلك هو العذاب الذي حل بهم يوم بدر ، من قتل وأسر وحرب بفتح الراء [ ص: 340 ] بما كنتم تكفرون أي بكفركم ، فما مصدرية ، و كان إذا جعل خبرها جملة مضارعية أفادت الاستمرار والعادة ، كقول عايشة : " فكانوا لا يقطعون السارق في الشيء التافه وقول سعيد بن المسيب في الموطأ : كانوا يعطون النفل من الخمس .

وعبر هنا ب " تكفرون " وفي سورة الأعراف ب " تكسبون " لأن العذاب المتحدث عنه هنا لأجل الكفر ، والمتحدث عنه في الأعراف لأجل الكفر والإضلال وما يجره الإضلال من الكبرياء والرئاسة .

التالي السابق


الخدمات العلمية