الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب سجود السهو

من إضافة الحكم إلى سببه وأولاه بالفوائت لأنه لإصلاح ما فات ، وهو والنسيان والشك واحد عند الفقهاء والظن الطرف الراجح والوهم الطرف المرجوح ( يجب [ ص: 78 ] بعد سلام واحد عن يمينه فقط ) لأنه المعهود ، وبه يحصل التحليل وهو الأصح بحر عن المجتبى . وعليه لو أتى بتسليمتين سقط عنه السجود ; ولو سجد قبل السلام جاز وكره تنزيها . وعند مالك قبله في النقصان وبعده في الزيادة ، فيعتبر القاف بالقاف والدال بالدال ( سجدتان . و ) يجب أيضا ( تشهد وسلام ) لأن سجود السهو يرفع التشهد [ ص: 79 ] دون القعدة لقوتها ، بخلاف الصلبية فإنها ترفعهما وكذا التلاوية على المختار ; ويأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء في القعود الأخير في المختار ، وقيل فيهما احتياطا ( إذا كان الوقت صالحا ) فلو طلعت الشمس في الفجر ، أو احمرت في القضاء ، أو وجد منه ما يقطع البناء بعد السلام سقط عنه فتح . وفي القنية [ ص: 80 ] لو بنى النفل على فرض سها فيه لم يسجد :

التالي السابق


باب سجود السهو

( قوله من إضافة الحكم إلى سببه ) قال في العناية : وهي الأصل في الإضافات لأن الإضافة للاختصاص ، وأقواه اختصاص المسبب بالسبب ا هـ لكن فيه أن السجود ليس حكما بل هو متعلقه والحكم هنا الوجوب . وأجيب بأنه على تقدير مضاف أي وجوب سجود السهو تأمل .

( قوله وأولاه بالفوائت ) أي قرنه بها على طريق التضمين ولذا عداه بالباء ، وإلا فهو من الولي بمعنى القرب والدنو كما في القاموس ، فيعدى إلى المفعول الثاني بمن لا بالباء . يقال : أوليت زيدا من عمرو : أي قربته منه .

( قوله لأنه لإصلاح ما فات ) أي ما ترك من الواجبات في محله ، كما أن قضاء الفوائت لإصلاح ما فات وقته بفعله بعده .

( قوله وهو ) أي السهو .

( قوله واحد عند الفقهاء ) خبر عن هو وما عطف عليه : أي معنى هذه الثلاثة واحد عند الفقهاء . وفي ذكر الشك نظر . وفي البحر عن التحرير لا فرق في اللغة بين النسيان والسهو ، وهو عدم استحضار الشيء في وقت الحاجة . قال الرملي : وفي جمع الجوامع : السهو الغفلة عن المعلوم ، فيتنبه له بأدنى تنبه . والنسيان زوال المعلوم . وقال الحكماء : السهو زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة . والنسيان : زوالها عنهما معا فحينئذ يحتاج في تحصيلها إلى سبب جديد .

( قوله والظن إلخ ) حاصله أن ما يخطر بالبال ولم يصل إلى حد اليقين حتى يسمى علما ، ولا تساوت جهتاه حتى يسمى شكا ، بل ترجحت فيه إحداهما على الأخرى ، فالمرجوحة وهم والراجحة ظن ، فإن زاد الرجحان بلا جزم فهو غلبة الظن .

( قوله يجب له ) أي للسهو الآتي بيانه في قوله بترك واجب سهوا ح . وذكر في المحيط عن القدوري [ ص: 78 ] أنه سنة . وظاهر الرواية الوجوب وصححه في الهداية وغيرها لأنه لجبر نقصان تمكن في الصلاة فيجب كالدماء في الحج ، ويشهد له الأمر به في الأحاديث الصحيحة والمواظبة عليه . وظاهر كلامهم أنه لو لم يسجد يأثم بترك الواجب ، ولترك سجود السهو بحر . وفيه نظر ، بل يأثم لترك الجابر فقط إذ لا إثم على الساهي ، نعم هو في صورة العمد ظاهر ، وينبغي أن يرتفع هذا الإثم بإعادتها نهر ( قوله بعد سلام ) متعلق بمحذوف حال من فاعل يجب لا بيجب ، لما يأتي من أنه لو سجد قبل السلام كره تنزيها ، نعم يصح تعلقه بيجب بالنظر إلى تقييد السلام بالواحد لما يأتي من أنه بعد التسليمتين يسقط السجود .

( قوله واحد ) هذا قول الجمهور ، منهم شيخ الإسلام وفخر الإسلام . وقال في الكافي : إنه الصواب ، وعليه الجمهور ، وإليه أشار في الأصل ا هـ إلا أن مختار فخر الإسلام كونه تلقاء وجهه من غير انحراف ، وقيل يأتي بالتسليمتين ، وهو اختيار شمس الأئمة وصدر الإسلام أخي فخر الإسلام وصححه في الهداية والظهيرية والمفيد والينابيع ، كذا في شرح المنية . قال في البحر : وعزاه أي الثاني في البدائع إلى عامتهم ، فقد تعارض النقل عن الجمهور ا هـ .

( قوله عن يمينه ) احتراز عما اختاره فخر الإسلام من أصحاب القول الأول كما علمته . وفي الحلية : اختار الكرخي وفخر الإسلام وشيخ الإسلام وصاحب الإيضاح أن يسلم تسليمة واحدة . ونص في المحيط على أنه الأصوب . وفي الكافي على أنه الصواب . قال فخر الإسلام : وينبغي على هذا أن لا ينحرف في هذا السلام ، يعني فيكون سلامه مرة واحدة تلقاء وجهه . وغيره من أهل هذا القول على أنه يسلم مرة واحدة عن يمينه خاصة . ا هـ .

والحاصل أن القائلين بالتسليمة الواحدة قائلون بأنها عن اليمين إلا فخر الإسلام منهم فإنه يقول إنها تلقاء وجهه وهو المصرح به في شروح الهداية أيضا كالمعراج والعناية والفتح .

( قوله لأنه المعهود ) تعليل لكونه عن يمينه ، وقوله وبه يحصل التحليل تعليل لكونه واحدا ، ويأتي وجهه قريبا .

( قوله بحر عن المجتبى ) عبارة البحر : والذي ينبغي الاعتماد عليه تصحيح المجتبى أنه يسلم عن يمينه فقط . وقد ظن في البحر وتبعه في النهر وغيره أن هذا القول قول ثالث بناء على أن جميع أصحاب القول الثاني قائلون بأنه يسلم تلقاء وجهه مع أن القائل منهم بذلك هو فخر الإسلام فقط كما علمته ، وحينئذ فلا حاجة إلى عزو هذا القول إلى المجتبى حتى يرد ما قيل إن تصحيح المجتبى لا يوازي ما عليه الجمهور الذي هو الأكثر تصحيحا والأصوب والصواب فافهم .

( قوله وعليه لو أتى إلخ ) هذا جعله في البحر قولا رابعا . واستظهر في النهر أنه مفرع على القول بالواحدة ، وتبعه الشارح ، ويؤيده ما وجهوا به القول بالواحدة من أن السلام الأول لشيئين : للتحليل وللتحية ; والسلام الثاني للتحية فقط أي تحية بقية القوم لأن التحليل لا يتكرر ; وهنا سقط معنى التحية عن السلام لأنه يقطع الإحرام فكان ضم الثاني إليه عبثا ، ولو فعله فاعل لقطع الإحرام . قال في الحلية بعد عزوه ذلك إلىفخر الإسلام حتى إنه لا يأتي بعده بسجود السهو كما نقله في الذخيرة عن شيخ الإسلام ، ومشى عليه في الكافي وغيره . ا هـ . وفي المعراج قال شيخ الإسلام : لو سلم تسليمتين لا يأتي بسجود السهو بعد ذلك لأنه كالكلام . ا هـ . قلت : وعليه فيجب ترك التسليمة الثانية ( قوله جاز ) هو ظاهر الرواية ، وفي المحيط : وروي عن أصحابنا أنه لا يجزيه ويعيده بحر .

( قوله فيعتبر إلخ ) أي قاف قبل لقاف النقصان ودال بعد لدال الزيادة .

( قوله يرفع التشهد ) أي قراءته . حتى لو سلم بمجرد رفعه من سجدتي السهو صحت صلاته [ ص: 79 ] ويكون تاركا للواجب ، وكذا يرفع السلام إمداد .

( قوله لقوتها ) أي لأنها أقوى منه لكونها فرضا ( قوله فإنها ترفعهما ) أي القعدة والتشهد لأنها أقوى منهما لكونها ركنا ، والقعدة لختم الأركان إمداد ، أو لأن الصلبية ركن أصلي والقعدة ركن زائد كما مر في باب صفة الصلاة أو لأن القعدة لا تكون إلا آخر الأركان ، وبسجود الصلبية بعدها خرجت عن كونها آخرا .

( قوله وكذا التلاوية ) لأنها أثر القراءة وهي ركن فأخذت حكمها بحر أي تأخذ حكمها بعد سجودها أما قبله فإنها واجبة ; حتى لو سلم ولم يسجدها فصلاته صحيحة ، بخلاف الصلبية فإنها ركن أصلي من كل وجه كما سيأتي ، ونظيرها فيما ذكرنا ما لو نسي السورة فتذكرها في الركوع فعاد وقرأها أخذت حكم الفرض وارتفض الركوع فيلزمه إعادته .

[ تنبيه ] ذكر في التتارخانية أن العود إلى قراءة التشهد في القعدة الأخيرة إذا نسيه يرفع القعدة كالعود إلى التلاوية كما ذكره الحلواني والسرخسي . وذكر ابن الفضل أنه لا يرفعها . وفي واقعات الناطفي أن الفتوى عليه . ا هـ .

( قوله إذا كان الوقت صالحا ) أي لأداء تلك الصلاة فيه ( قوله أو احمرت في القضاء ) كذا في الفتح والبحر والذخيرة وغيرها ، ومفهومه أنه لو كان يؤدي العصر فاحمرت الشمس لا يسقط سجود السهو لأن ذلك الوقت صالح لأداء الصلاة نفسها فكذا لسجود سهوها ، بخلاف الفائتة الواجبة في كامل ، لكن في الإمداد عن الدراية التصريح بسقوطه إذا احمرت عقب السلام من فائتة أو حاضرة تحرزا عن الكراهة ، وهذا يقتضي أن القضاء : هنا غير قيد . ويؤيده ما في القنية : لو صلى العصر وعليه سهو فاصفرت الشمس لا يسجد للسهو ، ثم رأيته في البدائع علل هذا بأن السجدة تجبر النقصان المتمكن فجرى مجرى القضاء وقد وجبت كاملة فلا تقضى بالناقص ا هـ تأمل .

( قوله ما يقطع البناء ) كحدث عمد وعمل مناف إمداد .

( قوله بعد السلام ) تنازع فيه كل من طلعت واحمرت ووجد كما يفيده كلام الإمداد .

( قوله سقط عنه ) لأنه بالعود إلى السجود يعود إلى حرمة الصلاة وقد فات شرط صحتها بطلوع الشمس في الفجر ، ومثله خروج وقت الجمعة والعيد ، وكذا إذا وجد ما يقطع البناء . وأما في احمرار الشمس في القضاء فكذلك . وأما في الأداء فلئلا يعود إلى الوقت المكروه بعد صحة الصلاة بلا كراهة تأمل . بقي إذا سقط السجود فهل يلزمه الإعادة لكون ما أداه أولا وقع ناقصا بلا جابر . والذي ينبغي أنه إن سقط بصنعه كحدث عمد مثلا يلزمه وإلا فلا تأمل .

( قوله وفي القنية إلخ ) أقول : عبارة القنية برمز نجم الأئمة تطوع ركعتين وسها ثم بنى عليه ركعتين يسجد للسهو ، ولو بنى على الفرض تطوعا وقد سها في الفرض لا يسجد . ا هـ . والظاهر أن الفرق هو أن بناء النفل على النفل يصيره صلاة واحدة بخلاف بناء النفل على الفرض ، ولذا كان البناء فيه مكروها لأن النفل صلاة أخرى غير الفرض ; ولا يمكن أن يكون سجود السهو لصلاة واقعا في صلاة أخرى مقصودة وإن كانت تحريمة الفرض باقية فلذا لا يسجد ، أو لأنه لما بنى النفل عمدا صار مؤخرا للسلام عن محله عمدا ، والعمد لا يجبره سجود السهو بل تلزم فيه الإعادة ; وحيث كانت الإعادة واجبة لم يبق السجود واجبا عن سهوه في الفرض لأنه بالإعادة يأتي بما سها فيه ، والسجود جابر عما فات قائم مقام الإعادة ، فإذا وجبت الإعادة سقط السجود ، فعلى هذا لا يرد ما سيأتي من أنه لو قعد في الرابعة ثم قام وسجد للخامسة ضم إليها سادسة لتصير له الركعتان نفلا لأن هذا النفل غير مقصود فكأنه ليس صلاة أخرى ولأنه لم يؤخر سلام الفرض عن محله عمدا فلم تكن الإعادة عليه واجبة [ ص: 80 ] فلزمه سجود السهو ، هذا ما ظهر لي ، والله تعالى أعلم




الخدمات العلمية