الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
568 [ ص: 37 ] حديث سابع لأبي الزناد

مالك ، عن الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله : إذا مات فحرقوه ، ثم اذروا نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به ، فأمر الله البر فجمع ما فيه ، وأمر البحر فجمع ما فيه ، ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب ، وأنت أعلم ، فغفر له .

التالي السابق


قال أبو عمر : تابع يحيى على رفع هذا الحديث ، عن مالك بهذا الإسناد أكثر رواة الموطأ ، ووقفه مصعب بن عبد الله الزبيري ، وعبد الله بن مسلمة القعنبي فجعلاه من قول أبي هريرة ولم يرفعاه ، وقد روي عن القعنبي مرفوعا كرواية [ ص: 38 ] سائر الرواة عن مالك ، وممن رواه مرفوعا عن مالك عبد الله بن وهب ، وابن القاسم ، وابن بكير ، وأبو المصعب ، ومطرف ، وروح بن عبادة ، وجماعة .

أخبرنا أبو القاسم خلف بن القاسم بن سهل ، قال : حدثنا أبو الفوارس أحمد بن محمد بن الحسين بن السندي العسكري ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، والربيع بن سليمان ، قالا : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي الزناد ، ومالك بن أنس ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رجل لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه ، واذروا نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، فلما مات فعلوا به ، فأمر الله البحر فجمع ما فيه ، وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب ، وأنت أعلم ، فغفر له .

[ ص: 39 ] قال أبو عمر : روي من حديث الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أسرف رجل على نفسه حتى إذا حضرته الوفاة قال لأهله : إذا أنا مت فأحرقوني ، الحديث كحديث مالك عن أبي الزناد سواء ، وروي من حديث أبي سعيد الخدري هذا المعنى أيضا ، حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة ، عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان فيمن كان قبلكم رجل من الأمم السالفة أفاده الله مالا وولدا ، فلما ذهب - يعني أكثر عمره - قال لولده : لا أدع لكم مالا أو تفعلون ما أقول ، قالوا : يا أبانا لا تأمر بشيء إلا فعلناه ، قال : إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في يوم ريح عاصف لعلي أضل الله ، ففعلوا ذلك به ، فقال الله له : كن ، فإذا هو رجل قائم ، قال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : مخافتك ، فما تلافاه غيرها ، فغفر له ، قال أحمد بن زهير : كذا قال أبو هلال ، أوقف الحديث على أبي سعيد ، ورفعه سليمان التيمي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : أخبرني أبي ، قال : حدثنا قتادة [ ص: 40 ] عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر رجلا فيمن كان سلف ، ثم ذكر نحوه .

قال أبو عمر : روي من حديث أبي رافع ، عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال : قال رجل لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد ، وهذه اللفظة إن صحت رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل ، وإن لم تصح من جهة النقل فهي صحيحة من جهة المعنى ، والأصول كلها تعضدها ، والنظر يوجبها ; لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون وهم كفار ; لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن مات كافرا ، وهذا ما لا مدفع له ، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة ، وفي هذا الأصل ما يدلك على أن قوله في هذا الحديث " لم يعمل حسنة قط " أو " لم يعمل خيرا قط " لم يعذبه إلا ما عدا التوحيد من الحسنات والخير ، وهذا سائغ في لسان العرب جائز في لغتها أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض ، والدليل على أن الرجل كان مؤمنا قوله حين قيل له : لم فعلت هذا ؟ فقال : من خشيتك يا رب ، والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق ، بل ما تكاد تكون إلا لمؤمن عالم كما قال الله عز وجل : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ ص: 41 ] قالوا : كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه ، ومستحيل أن يخافه من لا يؤمن به ، وهذا واضح لمن فهم وألهم رشده .

ومثل هذا الحديث في المعنى ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، عن ابن العجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن رجلا لم يعمل خيرا قط ، وكان يداين الناس فيقول لرسوله : خذ ما يسر ، واترك ما عسر ، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا ، فلما هلك ، قال الله : هل عملت خيرا قط ؟ قال : لا ، إلا أنه كان لي غلام ، فكنت أداين الناس ، فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما يسر ، واترك ما عسر ، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا ، قال الله : قد تجاوزت عنك .

قال أبو عمر : فقول هذا الرجل - الذي لم يعمل خيرا قط غير تجاوزه عن غرمائه - : لعل الله يتجاوز عنا - إيمان ، وإقرار بالرب ومجازاته ، وكذلك قوله الآخر : خشيتك يا رب ، إيمان [ ص: 42 ] بالله ، واعتراف له بالربوبية ، والله أعلم .

وأما قوله : لئن قدر الله علي ، فقد اختلف العلماء في معناه ، فقال منهم قائلون : هذا رجل جهل بعض صفات الله عز وجل وهي القدرة ، فلم يعلم أن الله على كل ما يشاء قدير ، قالوا : ومن جهل صفة من صفات الله عز وجل وآمن بسائر صفاته وعرفها لم يكن بجهله بعض صفات الله كافرا ، قالوا : وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله ، وهذا قول المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين ، وقال آخرون : أراد بقوله : لئن قدر الله عليه ، من القدر الذي هو القضاء ، وليس من باب القدرة والاستطاعة في شيء ، قالوا : وهو مثل قول الله عز وجل في ذي النون ( إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ) .

وللعلماء في تأويل هذه اللفظة قولان ، أحدهما : أنها من التقدير والقضاء ، والآخر : أنها من التقتير والتضييق ، وكل ما قاله العلماء في تأويل هذه الآية فهو جائز في تأويل هذا [ ص: 43 ] الحديث في قوله : لئن قدر الله علي ، فأحد الوجهين تقديره كأن الرجل قال : لئن كان قد سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ، ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري ، والوجه الآخر تقديره والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك ثم أمر بأن يحرق بعد موته من إفراط خوفه ، قال ابن قتيبة : بلغني عن الكسائي أنه قال : يقال هذا قدر الله وقدره ، قال : ولو قرئت " أودية بقدرها " مخففا أو قرئت " وما قدروا الله حق قدره " مثقلا جاز ، وأنشد :


وما صب رجلي في حديد مجاشع مع القدر إلا حاجة لي أريدها

أراد القدر ، قال : ويقال هذا على قدر هذا وقدره ، قال الأصمعي : أنشدني عيسى بن عمر لبدوي :


كل شيء حتى أراك متاع وبقدر تفرق واجتماع

ومن هذا حديث ابن عمر ، عن النبي عليه السلام في الهلال " فإن غم عليكم فاقدروا له " وقد ذكرته في بابه وموضعه من هذا الكتاب .

[ ص: 44 ] وقد روينا عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب أنه قال في قول الله عز وجل ( فظن أن لن نقدر عليه ) قال : هو من التقتير ليس من القدرة ، يقال منه : قدر الله لك الخير يقدره قدرا بمعنى قدر الله لك الخير ، وأنشد ثعلب :


ولا عائدا ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

يعني ما تقدره وتقضي به يقع ، يعني ينزل وينفذ ويمضي .

قال أبو عمر : هذا البيت لأبي صخر الهذلي في قصيدة له أولها :


لليلى بذات الجيش دار عرفتها وأخرى بذات البين آياتها سطر

وفيها يقول :


وليس عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أبرم السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

[ ص: 45 ] السلم شجر من العضاه يدبغ به ، والنضر النضارة والتنعم ، وأبرم السلم أخرج برمته ، وأبرمت الأمر أحكمته ، وقال غيره :


فما الناس أردوه ولكن أقاده يد الله والمستنصر الله غالب
فإنك ما يقدر لك الله تلقه كفاحا وتجلبه إليك الجوالب

وقال ابن قتيبة في قول الله عز وجل ( فظن أن لن نقدر عليه ) أي لن نضيق عليه ، قال : فلان مقدر عليه ، ومقتر عليه ، ومنه قوله عز وجل ( فقدر عليه رزقه ) أي ضيق عليه في رزقه ، وقوله ( ومن قدر عليه رزقه ) أي ضيق عليه في رزقه ، وقال ثعلب في قول الله عز وجل ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا ) قال : مغاضبا للملك .

قال أبو عمر : قد قيل ما قال ثعلب ، وقيل إنه خرج مغاضبا لنبي كان في زمانه ، وهذان القولان للمتأخرين ، وأما المتقدمون فإنهم قالوا : خرج مغاضبا لربه ، روي ذلك عن ابن مسعود ، والشعبي ، والحسن البصري ، وغيرهم ، ولولا خروجنا عما له قصدنا لذكرنا خبره وقصته ههنا .

[ ص: 46 ] وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدره ، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان ، ألا ترى أن عمر بن الخطاب ، وعمران بن حصين ، وجماعة من الصحابة ، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القدر ، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به ، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين ، أو يكونوا في حين سؤالهم عنه غير مؤمنين .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا مضر بن محمد ، قال : حدثنا شيبان بن فروخ ، قال : حدثنا عبد الوارث ، عن يزيد الرشك ، قال : حدثنا مطرف ، عن عمران بن حصين ، قال : قلت يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار ؟ وذكر الحديث .

وروى الليث ، عن أبي قبيل ، عن شفي الأصبحي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، فذكر حديثا في القدر [ ص: 47 ] وفيه : فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلأي شيء نعمل إن كان الأمر قد فرغ منه ؟ فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهم العلماء الفضلاء - سألوا عن القدر سؤال متعلم جاهل ، لا سؤال متعنت معاند ، فعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جهلوا من ذلك ، ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه ، ولو كان لا يسعهم جهله وقتا من الأوقات لعلمهم ذلك مع الشهادة بالإيمان ، وأخذ ذلك عليهم في حين إسلامهم ، ولجعله عمودا سادسا للإسلام ، فتدبر ، واستعن بالله ، فهذا الذي حضرني على ما فهمته من الأصول ووعيته ، وقد أديت اجتهادي في تأويل حديث هذا الباب كله ولم آل ، وما أبرئ نفسي ، وفوق كل ذي علم عليم ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية