الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآويكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون عطف على الأمر بالاستجابة لله فيما يدعوهم إليه ، وعلى إعلامهم بأن الله لا تخفى عليه نياتهم ، وعلى التحذير من فتنة الخلاف على الرسول - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 319 ] تذكيرهم بنعمة الله عليهم بالعزة والنصر ، بعد الضعف والقلة والخوف ، ليذكروا كيف يسر الله لهم أسباب النصر من غير مظانها ، حتى أوصلهم إلى مكافحة عدوهم وأن يتقي أعداؤهم بأسهم ، فكيف لا يستجيبون لله فيما بعد ذلك ، وهم قد كثروا وعزوا وانتصروا ، فالخطاب للمؤمنين يومئذ ، ومجيء هذه الخطابات بعد وصفهم بالذين آمنوا إيماء إلى أن الإيمان هو الذي ساق لهم هذه الخيرات كلها ، وأنه سيكون هذا أثره فيهم كلما احتفظوا عليه كفوه من قبل سؤالهم ، ومن قبل تسديد حالهم ، فكيف لا يكونون بعد ترفه حالهم أشد استجابة وأثبت قلوبا .

وفعل " واذكروا " مشتق من الذكر - بضم الذال - وهو التذكر لا ذكر اللسان ، أي تذكروا .

و إذ اسم زمان مجرد عن الظرفية ، فهو منصوب على المفعول به ، أي اذكروا زمن كنتم قليلا .

وجملة " أنتم قليل " مضاف إليها إذ ليحصل تعريف المضاف ، وجيء بالجملة اسمية للدلالة على ثبات وصف القلة والاستضعاف فيهم .

وأخبر ب " قليل " وهو مفرد عن ضمير الجماعة لأن قليلا وكثيرا قد يجيئان غير مطابقين لما جريا عليه ، كما تقدم عند قوله - تعالى - " معه ربيون كثير " في سورة آل عمران .

والأرض يراد بها الدنيا كما تقدم عند قوله - تعالى - " ولا تفسدوا في الأرض " في سورة الأعراف ، فالتعريف شبيه بتعريف الجنس ، أو أريد بها أرض مكة ، فالتعريف للعهد ، والمعنى تذكير المؤمنين بأيام إقامتهم بمكة قليلا مستضعفين بين المشركين ، فإنهم كانوا حينئذ طائفة قليلة العدد ، قد جفاهم قومهم وعادوهم فصاروا لا قوم لهم ، وكانوا على دين لا يعرفه أحد من أهل العالم فلا يطمعون في نصر موافق لهم في دينهم وإذا كانوا كذلك وهم في مكة فهم كذلك في غيرها من الأرض فآواهم الله بأن صرف أهل مكة عن استيصالهم ثم بأن قيض الأنصار أهل العقبة الأولى وأهل العقبة الثانية ، فأسلموا وصاروا أنصارا لهم بيثرب ، ثم أخرجهم من مكة إلى بلاد الحبشة فآواهم بها ، ثم أمرهم بالهجرة إلى يثرب فآواهم بها ، ثم صار جميع المؤمنين بها أعداء للمشركين فنصرهم هنالك على المشركين يوم بدر ، فالله [ ص: 320 ] الذي يسر لهم ذلك كله قبل أن يكون لهم فيه كسب أو تعمل ، أفلا يكون ناصرا لهم بعد أن ازدادوا وعزوا وسعوا للنصر بأسبابه ، وأفلا يستجيبون هم له إذا دعاهم لما يحييهم وحالهم أقرب إلى النصر منها يوم كانوا قليلا مستضعفين .

والتخطف شدة الخطف ، والخطف الأخذ بسرعة وقد تقدم عند قوله - تعالى - يكاد البرق يخطف أبصارهم وهو هنا مستعار للغلبة السريعة لأن الغلبة شبه الأخذ ، فإذا كانت سريعة أشبهت الخطف ، قال - تعالى - ويتخطف الناس من حولهم أي يأخذكم أعداؤكم بدون كبرى مشقة ولا طول محاربة إذ كنتم لقمة سايغة لهم ، وكانوا أشد منكم قوة ، لولا أن الله صرفهم عنكم ، وقد كان المؤمنون خائفين في مكة ، وكانوا خائفين في طرق هجرتيهم ، وكانوا خائفين يوم بدر ، حتى أذاقهم الله نعمة الأمن من بعد النصر يوم بدر .

و " الناس " مراد بهم ناس معهودون وهم الأعداء ، المشركون من أهل مكة وغيرهم ، أي طائفة معروفة من جنس الناس من العراب الموالين لهم .

وما رزقهم الله من الطيبات : هي الأموال التي غنموها يوم بدر .

والإيواء : جعل الغير آويا ، أي راجعا إلى الذي يجعله ، فيئول معناه إلى الحفظ والرعاية .

والتأييد : التقوية أي جعل الشيء ذا أيد ، أي ذا قدرة على العمل لأن اليد يكنى بها عن القدرة قال - تعالى - واذكر عبدنا داود ذا الأيد .

وجملة " ورزقكم من الطيبات " إدماج بذكر نعمة توفير الرزق في خلال المنة بنعمة النصر وتوفير العدد بعد الضعف والقلة ، فإن الأمن ووفرة العدد يجلبان سعة الرزق .

ومضمون هذه الآية صادق أيضا على المسلمين في كل عصر من عصور النبوة والخلافة الراشدة ، فجماعتهم لم تزل في ازدياد عزة ومنعة ، ولم تزل منصورة على الأمم العظيمة التي كانوا يخافونها من قبل أن يؤمنوا ، فقد نصرهم الله على هوازن يوم حنين ، ونصرهم على الروم يوم تبوك ونصرهم على الفرس يوم القادسية ، وعلى الروم في مصر ، وفي برقة ، وفي إفريقية ، وفي بلاد الجلالقة ، وفي بلاد الفرنجة من أوروبا . فلما زاغ المسلمون وتفرقوا أخذ أمرهم يقف ثم ينقبض ابتداء من ظهور [ ص: 321 ] الدعوة العباسية ، وهي أعظم تفرق وقع في الدولة الإسلامية .

وقد نبههم الله - تعالى - بقوله " لعلكم تشكرون " فلما أعطوا حق الشكر دام أمرهم في تصاعد ، وحين نسوه أخذ أمرهم في تراجع ، ولله عاقبة الأمور .

ولم يزل النبيء - صلى الله عليه وسلم - ينبه المسلمين بالموعظة أن لا يحيدوا عن أسباب بقاء عزهم ، وفي الحديث ، عن حذيفة بن اليمان قال قلت : يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم . قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم وفيه دخن الحديث ، وفي الحديث الآخر بدئ هذا الدين غريبا وسيعود كما بدئ .

التالي السابق


الخدمات العلمية