الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1660 [ ص: 11 ] حديث ثالث لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تحاج آدم وموسى ، قال له موسى : أنت آدم الذي أغويت الناس ، وأخرجتهم من الجنة ، قال آدم : أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته وبكلامه ؟ قال : نعم ، قال : أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق .

التالي السابق


إلى ههنا انتهى حديث مالك عند جميع رواته لهذا الحديث ، وزاد فيه ابن عيينة ، عن أبي الزناد بإسناده " قبل أن أخلق بأربعين سنة " وكذلك قال طاوس ، عن أبي هريرة .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن عمر ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس سمع [ ص: 12 ] أبا هريرة يقول ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج آدم موسى ، فقال موسى : يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة ، قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله بكلامه ، وخط لك التوراة بيده ، أتلومني على أمر قدره علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ وهذا حديث صحيح ثابت من جهة الإسناد لا يختلفون في ثبوته ، رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين ، وروي من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية الثقات الأئمة الأثبات .

حدثنا أحمد بن فتح بن عبد الله ، حدثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن إبراهيم ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن سلم المقدسي ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي آدم موسى ، فقال له موسى : أنت أبو الناس الذي أغويتهم ، وأخرجتهم من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي كلمك الله واصطفاك برسالته ، فكيف تلومني على عمل كتب الله علي أن أعمله قبل أن أخلق ، قال : فحج آدم موسى .

[ ص: 13 ] ورواه الزهري فاختلف أصحابه عليه في إسناده ، فرواه إبراهيم بن سعد ، وشعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، ورواه عمر بن سعيد ، عن الزهري ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، ورواه معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة وسعيد ، عن أبي هريرة ، ومنهم من يجعله عن معمر ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، ومنهم من يرويه ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، وكلهم يرفعه ، وهي كلها صحاح ; للقاء الزهري جماعة من أصحاب أبي هريرة ، وقد روي هذا الحديث عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا بأتم ألفاظ ، وأحسن سياقة .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا علي بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا سحنون ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن موسى عليه السلام قال : يا رب أبونا آدم أخرجنا ونفسه من الجنة ، فأراه الله آدم ، فقال له : أنت آدم ؟ قال آدم : نعم ، قال : أنت الذي نفخ الله فيك من روحه ، وعلمك [ ص: 14 ] الأسماء كلها ، وأمر ملائكته فسجدوا لك ؟ قال : نعم ، قال : فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ قال له آدم : ومن أنت ؟ قال : أنا موسى ، قال : أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب ، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه ؟ قال : نعم ، قال : أما وجدت في كتاب الله الذي أنزل عليك أن ذلك كان في كتاب الله قبل أن أخلق ؟ قال : نعم ، قال : أفتلومني في شيء سبق من الله فيه القضاء قبل ؟ قال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى .

في هذا الحديث من الفقه : إثبات الحجاج والمناظرة ، وإباحة ذلك إذا كان طلبا للحق وظهوره ، وقد أفردنا لهذا المعنى بابا كاملا أوضحناه فيه بالحجج والبرهان ، والبسط والبيان ، في كتابنا كتاب العلم ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا .

وفيه : إباحة التقرير ، والتعريض في معنى التوبيخ في درج الحجاج حتى تقر الحجة مقرها .

وفيه : دليل على أن من علم وطالع العلوم ، فالحجة له ألزم ، وتوبيخه على الغفلة أعظم .

[ ص: 15 ] وفيه : إباحة مناظرة الصغير للكبير ، والأصغر للأسن إذا كان ذلك طلبا للازدياد من العلم ، وتقريرا للحق ، وابتغاء له .

وفيه : الأصل الجسيم الذي أجمع عليه أهل الحق ، وهو أن الله عز وجل قد فرغ من أعمال العباد ، فكل يجري فيما قدر له وسبق في علم الله تبارك اسمه .

وأما قوله : أفتلومني على أمر قد قدر علي ؟ فهذا عندي مخصوص به آدم ; لأن ذلك إنما كان منه ومن موسى عليهما السلام بعد أن تيب على آدم ، وبعد أن تلقى من ربه كلمات تاب بها عليه ، فحسن منه أن يقول ذلك لموسى ; لأنه قد كان تيب عليه من ذلك الذنب ، وهذا غير جائز أن يقوله اليوم أحد إذا أتى ما نهاه الله عنه ، ويحتج بمثل هذا فيقول : أتلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت ، وذلك قد سبق في علم الله وقدره علي قبل أن أخلق ؟ هذا ما لا يسوغ لأحد أن يقوله ، وقد اجتمعت الأمة أن من أتى ما يستحق الذم عليه فلا بأس بذمه ، ولا حرج في لومه ، ومن أتى ما يحمد له فلا بأس بمدحه عليه وحمده ، وقد حكى مالك ، عن يحيى بن سعيد [ ص: 16 ] معنى ما ذكرنا أن ذلك إنما كان من آدم عليه السلام بعد أن تيب عليه ، ذكره ابن وهب ، عن مالك ، وهذا صحيح ; لأن روحه لم يجتمع بروح موسى ولم يلتقيا والله أعلم إلا بعد الوفاة ، وبعد رفع أرواحهما في عليين ، فكان التقاؤهما كنحو التقاء نبينا صلى الله عليه وسلم بمن لقيه في المعراج من الأنبياء على ما جاء في الأثر الصحيح ، وإن كان ذلك عندي لا يحتمل تكييفا ، وإنما فيه التسليم ; لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، قال : سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال حماد : وأخبرنا حميد ، عن الحسن ، عن جندب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقي آدم موسى ، فحج آدم موسى .

قال أبو عمر : معنى حجه : غلبه وظهر عليه في الحجة ، وفي ذلك دليل على فضل من أدلى عند التنازع بحجته .

[ ص: 17 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حماد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقي آدم موسى ، فقال له موسى : يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، ونفخ فيك من روحه ، فعلت ما فعلت ، فأخرجت ذريتك من الجنة ، قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، وقربك نجيا ، وآتاك التوراة ، فبكم تجد الذنب الذي عملته مكتوبا علي قبل أن أخلق ؟ قال : بأربعين سنة ، قال : فلم تلومني ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى يقولها ثلاثا .

قال أبو عمر : هذا الحديث من أوضح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر ودفع قول القدرية ، وبالله التوفيق والعصمة .

[ ص: 18 ] وروي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري : إن الله لا يطالب خلقه بما قضى عليهم وقدر ، ولكن يطالبهم بما نهاهم عنه وأمر ، فطالب نفسك من حيث يطالبك ربك والسلام ، وروينا أن الناس لما خاضوا في القدر بالبصرة اجتمع مسلم بن يسار ورفيع أبو العالية ، فقال أحدهما لصاحبه : تعال حتى ننظر فيما خاض الناس فيه هذا الأمر ، قال : فقعدا ففكرا ، فاتفق رأيهما أنه يكفي المؤمن من هذا الأمر أن يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأنه مجزي بعمله .




الخدمات العلمية