الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون

تشبيه حال بحال ، وهو متصل بما قبله ، إما بتقدير مبتدأ محذوف ، هو اسم إشارة لما ذكر قبله ، تقديره : هذا الحال كحال ما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، ووجه الشبه هو كراهية المؤمنين في بادئ الأمر لما هو خير لهم في الواقع [ ص: 264 ] وإما بتقدير مصدر لفعل الاستقرار الذي يقتضيه الخبر بالمجرور في قوله الأنفال لله والرسول إذ التقدير : استقرت لله والرسول استقرارا كما أخرجك ربك ، أي فيما يلوح إلى الكراهية والامتعاض في بادئ الأمر ، ثم نوالهم النصر والغنيمة في نهاية الأمر ، فالتشبيه تمثيلي وليس مراعى فيه تشبيه بعض أجزاء الهيئة المشبهة ببعض أجزاء الهيئة المشبه بها ، أي أن ما كرهتموه من قسمة الأنفال على خلاف مشتهاكم سيكون فيه خير عظيم لكم ، حسب عادة الله - تعالى - بهم في أمره ونهيه ، وقد دل على ما في الكلام من معنى مخالفة مشتهاهم قوله فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما تقدم ، مع قوله في هذه الجملة وإن فريقا من المؤمنين لكارهون .

فجملة وإن فريقا في موضع الحال ، والعامل فيها أخرجك ربك ، هذا وجه اتصال كاف التشبيه بما قبلها على الأظهر ، وللمفسرين وجوه كثيرة بلغت العشرين قد استقصاها ابن عادل ، وهي لا تخلو من تكلف ، وبعضها متحد المعنى ، وبعضها مختلفه ، وأحسن الوجوه ما ذكره ابن عطية ومعناه قريب مما ذكرنا وتقديره بعيد منه .

والمقصود من هذا الأسلوب : الانتقال إلى تذكيرهم بالخروج إلى بدر وما ظهر فيه من دلائل عناية الله - تعالى - برسوله - صلى الله عليه وسلم - وبالمؤمنين .

و ما مصدرية . والإخراج : إما مراد به الأمر بالخروج للغزو ، وإما تقدير الخروج لهم وتيسيره .

والخروج مفارقة المنزل والبلد إلى حين الرجوع إلى المكان الذي خرج منه ، أو إلى حين البلوغ إلى الموضع المنتقل إليه .

والإخراج من البيت : هو الإخراج المعين الذي خرج به النبيء - صلى الله عليه وسلم - غازيا إلى بدر .

والباء في بالحق للمصاحبة أي إخراجا مصاحبا للحق ، والحق هنا الصواب ، لما تقدم آنفا من أن اسم الحق جامع لمعنى كمال كل شيء في محامد نوعه .

والمعنى أن الله أمره بالخروج إلى المشركين ببدر أمرا موافقا للمصلحة في حال كراهة فريق من المؤمنين ذلك الخروج .

[ ص: 265 ] وقد أشار هذا الكلام إلى السبب الذي خرج به المسلمين إلى بدر ، فكان بينهم وبين المشركين يوم بدر ، وذلك أنه كان في أوائل رمضان في السنة الثانية للهجرة أن قفلت عير لقريش فيها أموال وتجارة لهم من بلاد الشام ، راجعة إلى مكة ، وفيها أبو سفيان بن حرب في زهاء ثلاثين رجلا من قريش ، فلما بلغ خبر هذه العير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ندب المسلمين إليها فانتدب بعضهم وتثاقل بعض ، وهم الذين كرهوا الخروج ، ولم ينتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تثاقلوا ومن لم يحضر ظهرهم أي رواحلهم فسار وقد اجتمع من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر خرجوا يوم ثمانية من رمضان ، وكانوا يحسبون أنهم لا يلقون حربا وأنهم يغيرون على العير ثم يرجعون ، وبلغ أبا سفيان خبر خروج المسلمين فأرسل صارخا يستصرخ قريشا لحماية العير ، فتجهز منهم جيش ، ولما بلغ المسلمون وادي ذفران بلغهم خروج قريش لتلقي العير ، فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين فأشاروا عليه بالمضي في سبيله وكانت العير يومئذ فاتتهم ، واطمأن أبو سفيان لذلك فأرسل إلى أهل مكة يقول : إن الله نجى عيركم فارجعوا ، فقال أبو جهل : لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موضع ماء فيه سوق للعرب في كل عام - فنقيم ثلاثا ، فننحر الجزر ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان ، وتتسامع العرب بنا وبمسيرنا فلا يزالوا يهابوننا ويعلموا أن محمدا لم يصب العير ، وأنا قد أعضضناه ، فسار المشركون إلى بدر وتنكبت عيرهم على طريق الساحل ، وأعلم الله النبيء - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأعلم المسلمين ، فاستشارهم وقال : العير أحب إليكم أم النفير ، فقال أكثرهم : العير أحب إلينا من لقاء العدو ، فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أعاد استشارتهم فأشار أكثرهم قائلين : عليك بالعير فإنا خرجنا للعير ، فظهر الغضب على وجهه ، فتكلم أبو بكر ، وعمر ، والمقداد بن الأسود ، وسعد بن عبادة ، وأكثر الأنصار ، ففوضوا إلى رسول الله ما يرى أن يسير إليه - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم حينئذ أن يسيروا إلى القوم ببدر فساروا ، وكان النصر العظيم الذي هز به الإسلام رأسه .

فهذا ما أشار إليه قوله - تعالى - : وإن فريقا من المؤمنين لكارهون وذلك أنهم خرجوا على نية التعرض للعير ، وأن ليس دون العير قتال ، فلما أخبرهم عن تجمع قريش لقتالهم تكلم أبو بكر فأحسن ، وتكلم عمر فأحسن ، ثم قام المقداد بن الأسود [ ص: 266 ] فقال يا رسول الله : امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - بفتح باء " برك " وغين " الغماد " معجمة مكسورة موضع باليمن بعيد جدا عن مكة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يومئذ : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فإنك في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا . فكان رسول الله يتخوف أن يكون الأنصار لا يرون نصره إلا ممن دهمه بالمدينة ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم ، فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشيروا علي قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله . قال : أجل . قال : فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء ، لعل الله يريك بنا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله " فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال سيروا وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين - أي ولم يخص وعد النصر بتلقي العير فقط - فما كان بعد ذلك إلا أن زال من نفوس المؤمنين الكارهين للقتال ما كان في قلوبهم من الكراهية ، وقوله وإن فريقا من المؤمنين لكارهون في موضع الحال من الإخراج الذي أفادته ، ما المصدرية ، وهؤلاء هم الذين تثاقلوا وقت العزم على الخروج من المدينة ، والذين اختاروا العير دون النفير حين استشارة وادي ذفران ، لأن ذلك كله مقترن بالخروج لأن الخروج كان ممتدا في الزمان ، فجملة الحال من قوله وإن فريقا من المؤمنين لكارهون حال مقارنة لعاملها وهو أخرجك .

وتأكيد خبر كراهية فريق من المؤمنين بإن ولام الابتداء مستعمل في التعجيب من شأنهم بتنزيل السامع غير المنكر لوقوع الخبر منزلة المنكر لأن وقوع ذلك مما [ ص: 267 ] شأنه أن لا يقع ، إذ كان الشأن اتباع ما يحبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو التفويض إليه ، وما كان ينبغي لهم أن يكرهوا لقاء العدو . ويستلزم هذا التنزيل التعجيب من حال المخبر عنهم بهذه الكراهية فيكون تأكيد الخبر كناية عن التعجيب من المخبر عنهم .

وجملة يجادلونك حال من فريقا فالضمير لفريق باعتبار معناه لأنه يدل على جمع . وصيغة المضارع لحكاية حال المجادلة زيادة في التعجيب منها ، وهذا التعجيب كالذي في قوله - تعالى - يجادلنا من قوله : فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إذ قال يجادلنا ولم يقل جادلنا .

وقوله بعدما تبين لوم لهم على المجادلة في الخروج الخاص ، وهو الخروج للنفير وترك العير ، بعد أن تبين أي ظهر أن الله قدر لهم النصر ، وهذا التبين هو بين في ذاته سواء شعر به كلهم أو بعضهم فإنه بحيث لا ينبغي الاختلاف فيه ، فإنهم كانوا عربا أذكياء ، وكانوا مؤمنين أصفياء ، وقد أخبرهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن الله ناصرهم على إحدى الطائفتين : طائفة العير أو طائفة النفير ، فنصرهم إذن مضمون ، ثم أخبرهم بأن العير قد أخطأتهم ، وقد بقي النفير ، فكان بينا أنهم إذا لقوا النفير ينصرهم الله عليه ، ثم رأوا كراهية النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما اختاروا العير ، فكان ذلك كافيا في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم لا محالة ، ولكنهم فضلوا غنيمة العير على خضد شوكة أعدائهم ونهوض شوكتهم بنصربدر ، فذلك معنى تبين الحق ، أي رجحان دليله في ذاته ، ومن خفي عليه هذا التبيين من المؤمنين لم يعذره الله في خفائه عليه .

ومن هذه الآية يؤخذ حكم مؤاخذة المجتهد إذا قصر في فهم ما هو مدلول لأهل النظر ، وقد غضب النبيء - صلى الله عليه وسلم - من سؤال الذي سأله عن ضالة الإبل بعد أن سأله عن ضالة الغنم فأجابه هي لك أو لأخيك أو للذئب . فلما سأله بعد ذلك عن ضالة الإبل تمعر وجهه وقال " مالك ولها ، معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها " وروى مالك ، في الموطأ ، أن أبا هريرة مر بقوم محرمين فاستفتوه في لحم صيد وجدوا أناسا أحلة يأكلونه فأفتاهم بالأكل منه ثم قدم المدينة فسأل عمر بن الخطاب عن [ ص: 268 ] ذلك فقال له عمر بم أفتيتهم ؟ قال : أفتيتهم بأكله ، فقال : لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك .

وجملة كأنما يساقون إلى الموت في موضع الحال من الضمير المرفوع في يجادلونك أي حالتهم في وقت مجادلتهم إياك تشبه حالتهم لو ساقهم سائق إلى الموت ، والمراد بالموت الحالة المضادة للحياة وهو معنى تكرهه نفوس البشر ، ويصوره كل عقل بما يتخيله من الفظاعة والبشاعة كما تصوره أبو ذؤيب في صورة سبع في قوله : وإذا المنية أنشبت أظفارها

وكما تخيل ، تأبط شرا الموت طامعا في اغتياله فنجا منه حين حاصره أعداؤه في جحر في جبل :


فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا به كدحة والموت خزيان ينظر



فقوله - تعالى - كأنما يساقون إلى الموت تشبيه لحالهم ، في حين المجادلة في اللحاق بالمشركين ، بحال من يجادل ويمانع من يسوقه إلى ذات الموت .

وهذا تفسير أليق بالتشبيه لتحصل المخالفة المطلقة بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها ، وإلا فإن أمرهم بقتال العدو الكثير العدد ، وهم في قلة ، إرجاء بهم إلى الموت إلا أنه موت مظنون ، وبهذا التفسير يظهر حسن موقع جملة وهم ينظرون أما المفسرون فتأولوا الموت في الآية بأنه الموت المتيقن فيكون التخالف بين المشبه والمشبه به تخالفا بالتقييد .

وجملة وهم ينظرون حال من ضمير يساقون ومفعول ينظرون محذوف دل عليه قوله إلى الموت أي : وهم ينظرون الموت ، لأن حالة الخوف من الشيء المخوف إذا كان منظورا إليه تكون أشد منها لو كان يعلم أنه يساق إليه ولا يراه ، لأن للحس من التأثير على الإدراك ما ليس لمجرد التعقل ، وقريب من هذا المعنى قول جعفر بن علبة .


يرى غمرات الموت ثم يزورها

وفي عكسه في المسرة قوله - تعالى - وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون

التالي السابق


الخدمات العلمية