الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 46 ] وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : وليخش حذفت الألف من ليخش للجزم بالأمر ، ولا يجوز عند سيبويه إضمار لام الأمر قياسا على حروف الجر إلا في ضرورة الشعر . وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم ؛ وأنشد الجميع :


محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تبالا

أراد لتفد ، ومفعول يخش محذوف لدلالة الكلام عليه . و " خافوا " جواب لو . التقدير لو تركوا لخافوا . ويجوز حذف اللام في جواب لو . وهذه الآية قد اختلف العلماء في تأويلها ؛ فقالت طائفة : ( هذا وعظ للأوصياء ، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم ) ؛ قاله ابن عباس . ولهذا قال الله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما . وقالت طائفة : المراد جميع الناس ، أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس ؛ وإن لم يكونوا في حجورهم . وأن يسددوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يفعل بولده بعده . ومن هذا ما حكاه الشيباني قال : كنا على قسطنطينية في عسكر مسلمة بن عبد الملك ، فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي ، فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان . فقلت له : يا أبا بشر ، ودي ألا يكون لي ولد . فقال لي : ما عليك ! ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت ، أحب أو كره ، ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ؛ ثم تلا الآية . وفي رواية : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه ، وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك ؟ فقلت : بلى ! فتلا هذه الآية وليخش الذين لو تركوا إلى آخرها .

قلت : ومن هذا المعنى ما روى محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحسن الصدقة جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته . وقول ثالث قاله جمع من المفسرين : هذا في الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته عند وصيته : إن الله سيرزق ولدك فانظر لنفسك ، وأوص بمالك في سبيل الله ، وتصدق وأعتق . حتى يأتي على عامة ماله أو يستغرقه فيضر ذلك بورثته ؛ فنهوا عن ذلك . فكأن الآية تقول لهم : ( كما تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم ، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على [ ص: 47 ] تبذير ماله ) ؛ قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : ( إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول أوص بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك ، ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك ) ؛ فذلك قوله تعالى : فليتقوا الله . وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس هذا ، وهو أن يقول للمحتضر من يحضره : أمسك على ورثتك ، وأبق لولدك فليس أحد أحق بمالك من أولادك ، وينهاه عن الوصية ، فيتضرر بذلك ذوو القربى وكل من يستحق أن يوصى له ؛ فقيل لهم : كما تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم ، فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى ، واتقوا الله في ضررهم . وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث ؛ روي عن سعيد بن جبير وابن المسيب . قال ابن عطية : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان ؛ يصلح لأحدهما القول الواحد ، ولآخر القول الثاني . وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدم لنفسه . وإذا ترك ورثة ضعفاء مهملين مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط ؛ فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعاة إنما هو الضعف فيجب أن يمال معه .

قلت : وهذا التفصيل صحيح ؛ لقوله عليه السلام لسعد : إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس . فإن لم يكن للإنسان ولد ، أو كان وهو غني مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمن عليه ؛ فالأولى بالإنسان حينئذ تقديم ماله بين يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح ، فيكون وزره عليه .

الثانية : قوله تعالى : وليقولوا قولا سديدا السديد : العدل والصواب من القول ؛ أي مروا المريض بأن يخرج من ماله ما عليه من الحقوق الواجبة ، ثم يوصي لقرابته بقدر ما لا يضر بورثته الصغار . وقيل : المعنى قولوا للميت قولا عدلا ، وهو أن يلقنه بلا إله إلا الله ، ولا يأمره بذلك ، ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمع منه ويتلقن . هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ولم يقل مروهم ؛ لأنه لو أمر بذلك لعله يغضب ويجحد . وقيل : المراد اليتيم ؛ أن لا ينهروه ولا يستخفوا به .

التالي السابق


الخدمات العلمية