الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              المسألة الرابعة

              الإباحة المنسوبة إلى الرخصة ; هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج ، أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك ؟

              فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر ، وذلك ظاهر في قوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] ، وقوله في الآية الأخرى : فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ; فلم يذكر في ذلك أن له الفعل والترك ، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم .

              وكذلك قوله : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 184 ] ، ولم يقل : فله الفطر ، ولا فليفطر ، ولا يجوز له ، بل ذكر نفس العذر وأشار إلى أنه إن أفطر ; فعدة من أيام أخر .

              وكذلك قوله : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] على القول بأن المراد القصر من عدد الركعات ، ولم يقل : فلكم أن [ ص: 491 ] تقصروا أو فإن شئتم فاقصروا .

              وقال [ تعالى ] في المكره : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره الآية إلى قوله : ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله [ النحل : 106 ] ; فالتقدير أن من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولم يقل : فله أن ينطق أو إن شاء فلينطق .

              وفي الحديث : أكذب امرأتي ؟ قال له : لا خير في الكذب . قال له : أفأعدها وأقول لها ؟ قال : لا جناح عليك ، ولم يقل له نعم ، ولا افعل إن [ ص: 492 ] شئت .

              والدليل على أن التخيير غير مراد في هذه الأمور ، أن الجمهور أو الجميع يقولون : من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الإكراه مأجور ، وفي أعلى الدرجات ، والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر ; فكذلك غيره من المواضع [ ص: 493 ] المذكورة وسواها .

              وأما الإباحة التي بمعنى التخيير ففي قوله تعالى : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم [ البقرة : 223 ] ، يريد : كيف شئتم : مقبلة ومدبرة وعلى جنب ; فهذا تخيير واضح ، وكذلك قوله : وكلا منها رغدا حيث شئتما [ البقرة : 35 ] ، وما أشبه ذلك ، وقد تقدم في قسم خطاب التكليف فرق ما بين المباحين .

              فإن قيل : ما الذي ينبني على الفرق بينهما ؟

              قيل : ينبني عليه فوائد كثيرة ، ولكن العارض في مسألتنا أنا إن قلنا : الرخصة مخير فيها حقيقة لزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير ، وليس كذلك إذا قلنا : إنها مباحة بمعنى رفع الحرج عن فاعلها ; إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير ; ألا ترى أنه موجود مع الواجب ؟ ، وإذا كان كذلك ; تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود شرعا ، فإذا عمل بها لم يكن بين المعذور وبين غيره في العمل بها فرق ، لكن العذر رفع التأثيم عن المنتقل عنها إن اختار لنفسه الانتقال ، وسيأتي لهذا بسط إن شاء الله تعالى .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية