الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون

يؤذن العطف بأن الخطاب بالأمر في قوله فاستمعوا و أنصتوا وفي قوله " لعلكم " تابع للخطاب في قوله هذا بصائر من ربكم إلخ ، فقوله وإذا قرئ القرآن من جملة ما أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن يقوله لهم وذلك إعادة تذكير للمشركين تصريحا أو تعريضا بأن لا يعرضوا عن استماع القرآن وبأن يتأملوه ليعلموا أنه آية عظيمة ، وأنه بصائر وهدى ورحمة ، لمن يؤمن به ولا يعاند ، وقد علم من أحوال المشركين أنهم كانوا يتناهون عن الإنصات إلى القرآن " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون " .

[ ص: 239 ] وذكر اسم القرآن إظهار في مقام الإضمار ، لأن القرآن تقدم ذكره بواسطة اسم الإشارة فنكتة هذا الإظهار : التنويه بهذا الأمر ، وجعل جملته مستقلة بالدلالة غير متوقفة على غيرها ، وهذا من وجوه الاهتمام بالكلام ومن دواعي الإظهار في مقام الإضمار استقريته من كلام البلغاء .

والاستماع الإصغاء ، وصيغة الافتعال دالة على المبالغة في الفعل ، والإنصات الاستماع مع ترك الكلام فهذا مؤكد لا تسمعوا . مع زيادة معنى . وذلك مقابل قولهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، ويجوز أن يكون الاستماع مستعملا في معناه المجازي ، وهو الامتثال للعمل بما فيه كما تقدم آنفا في قوله وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ويكون الإنصات جامعا لمعنى الإصغاء وترك اللغو .

وهذا الخطاب شامل للكفار على وجه التبليغ ، وللمسلمين على وجه الإرشاد لأنهم أرجى للانتفاع بهديه لأن قبله قوله وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .

ولا شبهة في أن هذه الآية نزلت في جملة الآيات التي قبلها وعلى مناسبتها ، سواء أريد بضمير الخطاب بها المشركون والمسلمون معا ، أم أريد المسلمون تصريحا والمشركون تعريضا ، أم أريد المشركون للاهتداء والمسلمون بالأحرى لزيادته .

فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال ، والاهتداء بما يحتوي عليه القرآن من الدلالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - المقضي إلى الإيمان به ، ولما جاء به من إصلاح النفوس ، فالأمر بالاستماع مقصود به التبليغ واستدعاء النظر والعمل بما فيه ، فالاستماع والإنصات مراتب بحسب مراتب المستمعين .

فهذه الآية مجملة في معنى الاستماع والإنصات وفي مقتضى الأمر من قوله " فاستمعوا له وأنصتوا " ، يبين بعض إجمالها سياق الكلام والحمل على ما يفسر سببها من قوله - تعالى - وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، ويحال بيان مجملها فيما زاد على ذلك على أدلة أخرى . وقد اتفق علماء الأمة على أن ظاهر الآية بمجرده في صور كثيرة مؤول ، فلا يقول أحد منهم بأنه [ ص: 240 ] يجب على كل مسلم إذا سمع أحدا يقرأ القرآن أن يشتغل بالاستماع وينصت ، إذ قد يكون القارئ يقرأ بمحضر صانع في صنعته فلو وجب عليه الاستماع لأمر بترك عمله ، ولكنهم اختلفوا في محمل تأويلها : فمنهم من خصها بسبب رأوا أنه سبب نزولها ، فرووا عن أبي هريرة أنها نزلت في قراءة الإمام في الجهر ، وروى بعضهم أن رجلا من الأنصار صلى وراء النبيء - صلى الله عليه وسلم - صلاة جهرية فكان يقرأ في الصلاة والنبيء - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فنزلت هذه الآية في أمر الناس بالاستماع لقراءة الإمام . وهؤلاء قصروا أمر الاستماع على قراءة خاصة دل عليها سبب النزول عندهم على نحو يقرب من تخصيص العام بخصوص سببه ، عند من يخصص به ، وهذا تأويل ضعيف لأن نزول الآية على هذا السبب لم يصح ، ولا هو مما يساعد عليه نظم الآي التي معها ، وما قالوه في ذلك إنما هو تفسير وتأويل وليس فيه شيء مأثور عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - .

ومنهم من أبقى أمر الاستماع على إطلاقه القريب من العموم ، ولكنهم تأولوه على أمر الندب ، وهذا الذي يؤخذ من كلام فقهاء المالكية ، ولو قالوا المراد من قوله " قرئ " قراءة خاصة وهي أن يقرأه الرسول - عليه الصلاة والسلام - على الناس لعلم ما فيه والعمل به للكافر والمسلم ، لكان أحسن تأويلا .

وفي تفسير القرطبي عن سعيد بن المسيب : كان المشركون يأتون رسول الله إذا صلى فيقول بعضهم لبعض لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله - تعالى - جوابا لهم وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا .

على أن ما تقدم من الإخبار في محمل سبب نزول هذه الآية لا يستقيم لأن الآية مكية وتلك الحوادث حدثت في المدينة . أما استدلال أصحاب أبي حنيفة على ترك قراءة المأموم إذا كان الإمام مسرا بالقراءة فالآية بمعزل عنه إذ لا يتحقق في ذلك الترك معنى الإنصات .

ويجب التنبه إلى أن ليس في الآية صيغة من صيغ العموم لأن الذي فيها فعلان هما قرئ و استمعوا ، والفعل لا عموم له في الإثبات .

ومعنى الشرط المستفاد من " إذا " يقتضي إلا عموم الأحوال أو الأزمان دون [ ص: 241 ] القراءات . وعموم الأزمان أو الأحوال لا يستلزم عموم الأشخاص بخلاف العكس كما هو بين .

التالي السابق


الخدمات العلمية