الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المرضى باب ما جاء في كفارة المرض وقول الله تعالى من يعمل سوءا يجز به

                                                                                                                                                                                                        5317 حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المرضى . باب ما جاء في كفارة المرض ) كذا لهم ، إلا أن البسملة سقطت لأبي ذر ، وخالفهم النسفي فلم يفرد كتاب المرضى من كتاب الطب ، بل صدر بكتاب الطب ثم بسمل ، ثم ذكر " باب ما جاء " واستمر على ذلك إلى آخر كتاب الطب ، ولكل وجه ، وفي بعض النسخ " كتاب " . والمرضى جمع مريض ، والمراد بالمرض هنا مرض البدن ، وقد يطلق المرض على مرض القلب إما للشبهة كقوله - تعالى - : في قلوبهم مرض وإما للشهوة كقوله - تعالى - : فيطمع الذي في قلبه مرض ووقع ذكر مرض البدن في القرآن في الوضوء والصوم والحج ، وسيأتي ذكر مناسبة ذلك في أول الطب . والكفارة صيغة مبالغة من التكفير ، وأصله التغطية والستر ، والمعنى هنا أن ذنوب المؤمن تتغطى بما يقع له من ألم المرض ، قال الكرماني : والإضافة بيانية لأن المرض ليست له كفارة بل هو الكفارة نفسها ، فهو كقولهم شجر الأراك . أو الإضافة بمعنى " في " ، أو هو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وقال غيره : هو من الإضافة إلى الفاعل ، وأسند التكفير للمرض لكونه سببه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقول الله - عز وجل : من يعمل سوءا يجز به ) قال الكرماني : مناسبة الآية للباب أن الآية أعم ، إذ المعنى أن كل من يعمل سيئة فإنه يجازى بها . وقال ابن المنير : الحاصل أن المرض كما جاز أن يكون مكفرا للخطايا فكذلك يكون جزاء لها . وقال ابن بطال : ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن معنى الآية أن المسلم يجازى على خطاياه في الدنيا بالمصائب التي تقع له فيها فتكون كفارة لها . وعن الحسن وعبد الرحمن بن زيد : أن الآية المذكورة نزلت في الكفارة خاصة ، والأحاديث في هذا الباب تشهد للأول انتهى . وما نقله عنهما أورده الطبري وتعقبه . ونقل ابن التين عن ابن عباس نحوه ، والأول المعتمد . والأحاديث الواردة في سبب نزول الآية لما لم تكن على شرط البخاري ذكرها ثم أورد من الأحاديث على شرطه ما يوافق ما ذهب إليه الأكثر من تأويلها ، ومنه ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من طريق عبيد بن عمير عن عائشة " أن رجلا تلا هذه الآية من يعمل سوءا يجز به فقال : إنا لنجزى بكل ما عملناه ؟ هلكنا إذا . فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال نعم يجزى به في الدنيا من مصيبة في جسده مما يؤذيه وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان أيضا من حديث أبي بكر الصديق أنه قال : يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ؟ فقال : غفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تمرض ، ألست تحزن ؟ قال قلت : بلى . قال : هو ما تجزون به ولمسلم من طريق محمد بن قيس بن مخرمة عن أبي هريرة " لما نزلت من يعمل سوءا يجز به بلغت من المسلمين مبلغا شديدا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قاربوا وسددوا ، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة ، حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها . ثم ذكر المصنف ستة أحاديث : الحديث الأول حديث عائشة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما من مصيبة ) أصل المصيبة الرمية بالسهم ثم استعملت في كل نازلة . وقال الراغب : أصاب يستعمل في الخير والشر . قال الله - تعالى - : إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة الآية قال : وقيل : الإصابة في الخير مأخوذة من الصوب وهو المطر الذي ينزل بقدر الحاجة من غير ضرر ، وفي الشر مأخوذة من [ ص: 109 ] إصابة السهم . وقال الكرماني : المصيبة في اللغة ما ينزل بالإنسان مطلقا ، وفي العرف ما نزل به من مكروه خاصة ، وهو المراد هنا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تصيب المسلم ) في رواية مسلم من طريق مالك ويونس جميعا عن الزهري ما من مصيبة يصاب بها المسلم ولأحمد من طريق عبد الرزاق عن معمر بهذا السند ما من وجع أو مرض يصيب المؤمن ولابن حبان من طريق ابن أبي السري عن عبد الرزاق ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها ونحوه لمسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى الشوكة ) جوزوا فيه الحركات الثلاث ، فالجر بمعنى الغاية أي حتى ينتهي إلى الشوكة أو عطفا على لفظ مصيبة ، والنصب بتقدير عامل أي حتى وجدانه الشوكة ، والرفع عطفا على الضمير في تصيب . وقال القرطبي : قيده المحققون بالرفع والنصب ، فالرفع على الابتداء ولا يجوز على المحل . كذا قال ، ووجهه غيره بأنه يسوغ على تقدير أن " من " زائدة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يشاكها ) بضم أوله أي يشوكه غيره بها ، وفيه وصل الفعل لأن الأصل يشاك بها . وقال ابن التين : حقيقة هذا اللفظ - يعني قوله : يشاكها - أن يدخلها غيره . قلت : ولا يلزم من كونه الحقيقة أن لا يراد ما هو أعم من ذلك حتى يدخل ما إذا دخلت هي بغير إدخال أحد . وقد وقع في رواية هشام بن عروة عند مسلم لا يصيب المؤمن شوكة فإضافة الفعل إليها هو الحقيقة ، ويحتمل إرادة المعنى الأعم ، وهي أن تدخل بغير فعل أحد أو بفعل أحد . فمن لا يمنع الجمع بين إرادة الحقيقة والمجاز باللفظ الواحد يجوز مثل هذا ، ويشاكها ضبط بضم أوله ووقع في نسخة الصغاني بفتحه ، ونسبها بعض شراح المصابيح لصحاح الجوهري ، لكن الجوهري إنما ضبطها لمعنى آخر فقدم لفظ " يشاك " بضم أوله ثم قال : والشوكة حدة الناس وحدة السلاح ، وقد شاك الرجل يشاك شوكا إذا ظهرت فيه شوكته وقويت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلا كفر الله بها عنه ) في رواية أحمد إلا كان كفارة لذنبه أي يكون ذلك عقوبة بسبب ما كان صدر منه من المعصية ، ويكون ذلك سببا لمغفرة ذنبه . ووقع في رواية ابن حبان المذكورة إلا رفعه الله بها درجة ، وحط عنه بها خطيئة . ومثله لمسلم من طريق الأسود عن عائشة ، وهذا يقتضي حصول الأمرين معا : حصول الثواب ، ورفع العقاب . وشاهده ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " من وجه آخر عن عائشة بلفظ ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة ، وكتب له حسنة ، ورفع له درجة وسنده جيد . وأما ما أخرجه مسلم أيضا من طريق عمرة عنها إلا كتب الله له بها حسنة ، أو حط بها خطيئة كذا وقع فيه بلفظ " أو " فيحتمل أن يكون شكا من الراوي ، ويحتمل التنويع ، وهذا أوجه ، ويكون المعنى : إلا كتب الله له بها حسنة إن لم يكن عليه خطايا ، أو حط عنه خطايا إن كان له خطايا . وعلى هذا فمقتضى الأول أن من ليست عليه خطيئة يزاد في رفع درجته بقدر ذلك ، والفضل واسع .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) :

                                                                                                                                                                                                        وقع لهذا الحديث سبب أخرجه أحمد وصححه أبو عوانة والحاكم من طريق عبد الرحمن بن شيبة العبدري " أن عائشة أخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرقه وجع ، فجعل يتقلب على فراشه ويشتكي ، فقالت له عائشة : لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه ، فقال : إن الصالحين يشدد عليهم ، وإنه لا يصيب المؤمن نكبة شوكة " الحديث ، وفي هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قال : ظن بعض الجهلة أن المصاب [ ص: 110 ] مأجور ، وهو خطأ صريح ، فإن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب ، والمصائب ليست منها ، بل الأجر على الصبر والرضا . ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر ، بمجرد حصول المصيبة ، وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة ، قال القرافي : المصائب كفارات جزما سواء اقترن بها الرضا أم لا ، لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير وإلا قل ، كذا قال ، والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها ، وبالرضا يؤجر على ذلك ، فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه . وزعم القرافي أنه لا يجوز لأحد أن يقول للمصاب : جعل الله هذه المصيبة كفارة لذنبك ، لأن الشارع قد جعلها كفارة ، فسؤال التكفير طلب لتحصيل الحاصل ، وهو إساءة أدب على الشارع . كذا قال . وتعقب بما ورد من جواز الدعاء بما هو واقع كالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسؤال الوسيلة له . وأجيب عنه بأن الكلام فيما لم يرد فيه شيء ، وأما ما ورد فهو مشروع ، ليثاب من امتثل الأمر فيه على ذلك . الحديث الثاني والثالث حديث أبي سعيد وأبي هريرة معا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية