الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون

ترق في الإنكار والتعجيب من حالهم في إعراضهم عن النظر في حال رسولهم ، إلى الإنكار والتعجيب من إعراضهم عن النظر فيما هو أوضح من ذلك وأعم ، وهو ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء مما هو آيات من آيات وحدانية الله - تعالى - التي دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان بها . والمناسبة بين الكلامين : أن دعوة الرسول إلى التوحيد وإبطال الشرك هو من أكبر بواعثهم على تكذيبه أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب .

وعدي فعل " النظر " إلى متعلقه بحرف الظرفية لأن المراد التأمل بتدبر وهو التفكر كقوله - تعالى - وفي أنفسكم أفلا تبصرون وتقول نظرت في شأني ، فدل بحرف الظرفية على أن هذا التفكر عميق متغلغل في أصناف الموجودات ، وهي ظرفية مجازية .

والملكوت الملك العظيم ، وقد مضى عند قوله - تعالى - وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض في سورة الأنعام .

وإضافته إلى السماء والأرض بيانية أي الملك الذي هو السماوات والأرض أي ملك الله لهما ، فالمراد السماء بمجموعها والأرض بمجموعها الدالين على عظم ملك الله - تعالى - .

وعطف وما خلق الله من شيء على ملكوت فقسم النظر إلى نظر في عظيم ملك الله - تعالى - ، وإلى نظر في مخلوقاته ودقائق أحوالها الدالة على عظيم قدرة الله - تعالى - ، فالنظر إلى عظمة السماوات والأرض دليل على عظم ملك الله - تعالى - فهو الحقيق بالإلهية دون غيره ، والنظر إلى المخلوقات دليل على عظم قدرته - تعالى - ، وأنه المنفرد بالصنع فهو الحقيق بالإلهية ، فلو نظروا في ذلك نظر اعتبار لعلموا أن [ ص: 197 ] صانع ذلك كله ليس إلا إله واحد ، فلزال إنكارهم دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إبطال الشرك .

وقوله وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم معطوف على وما خلق الله من شيء .

و " أن " هذه هي أن المفتوحة الهمزة المشددة النون خففت ، فكان اسمها ضمير شأن مقدرا . وجملة : عسى أن يكون إلخ خبر ضمير الشأن .

و " أن " التي بعد عسى مصدرية هي التي تزاد بعد عسى غالبا في الاستعمال .

واسم " يكون " ضمير شأن أيضا محذوف لأن ما بعد " يكون " غير صالح لأن يعتبر اسما لكان ، والمعنى ألم ينظروا في توقع قرب أجلهم .

وصيغ الكلام على هذا النظم لإفادة تهويل الأمر عليهم وتخويفهم ، بجعل متعلق النظر من معنى الإخبار للدلالة على أنه أمر من شأنه أن يخطر في النفوس ، وأن يتحدث به الناس ، وأنه قد صار حديثا وخبرا فكأنه أمر مسلم مقرر .

وهذا موقع ضمير الشأن حيثما ورد ، ولذلك يسمى : ضمير القصة اعتدادا بأن جملة خبره قد صارت شيئا مقررا ومما يقصه الناس ويتحدثون به .

ومعنى النظر في توقع اقتراب الأجل ، التخوف من ذلك .

والأجل المضاف إلى ضمير المكذبين هو أجل الأمة لا أجل الأفراد ، لأن الكلام تهديد بأجل غير متعارف ، نبههم إلى التفكر في توقع حلول الاستئصال بهم وإهلاكهم كما هلك المكذبون من قبلهم ، لأنهم إذا تفكروا في أن صاحبهم ليس بمجنون حصل لهم العلم بأنه من العقلاء فما كان العاقل بالذي يحدث لقومه حادثا عظيما مثل هذا ويحدث لنفسه عناء كهذا العناء لغير أمر عظيم جاء به ، وما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ، وإذا نظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء علموا أن الله الملك الأعظم ، وأنه خالق المخلوقات ، فأيقنوا بأنه الإله الواحد ، فآل ذلك إلى تصديق الرسول - عليه الصلاة والسلام - وإبطال معتقدهم تعدد الآلهة أو آل في أقل الاحتمالات إلى الشك في ذلك ، فلا جرم أن يفضي بهم إلى النظر في توقع مصير لهم مثل ما صار إليه المكذبون من قبلهم .

ويجوز أن يكون المراد بالأجل مجيء الساعة ، وانقراض هذا العالم ، فهو أجلهم [ ص: 198 ] وأجل غيرهم من الناس فيكون تخويفا من يوم الجزاء .

ومن بديع نظم هذه الآيات : أنه لما أريد التبصر والتفكر في ثبوت الحقائق والنسب في نفس الأمر جيء مع فعلي القلب بصيغة القضية والخبر في قوله أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة وقوله وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ولما أريد التبصر والتفكر في صفات الذات جعل فعل القلب متعلقا بأسماء الذوات في قوله أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء .

ثم فرع على التهديد والوعيد توبيخهم والإنكار عليهم بطريقة الاستفهام التعجبي المفيد للاستبعاد بقوله فبأي حديث بعده يؤمنون فهو تعجيب مشوب باستبعاد للإيمان بما أبلغ إليهم الله بلسان رسوله - عليه الصلاة والسلام - ، وما نصب لهم من الآيات في أصناف المخلوقات ، فإن ذلك كله قد بلغ منتهى البيان قولا ودلالة بحيث لا مطمع أن يكون غيره أدل منه .

و " أي " هنا اسم أشرب معنى الاستفهام ، وأصله اسم مبهم يفسره ما يضاف هو إليه ، وهو اسم لحصة متميزة عما يشاركها في نوع من جنس أو صفة ، فإذا أشرب " أي " معنى الاستفهام كان للسؤال عن تعيين مشارك لغيره في الوصف المدلول عليه بما تضاف إليه أي طلبا لتعيينه ، فالمسئول عنه بها مساو لمماثل له معروف . فقوله فبأي حديث سؤال عن الحديث المجهول المماثل للحديث المعروف بين السائل والمسئول ، وسيأتي الكلام على أي عند قوله - تعالى - فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون في سورة القلم .

والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار ، أي لا يؤمنون بشيء من الحديث بعد هذا الحديث .

وحقيقة الحديث أنه الخبر والقصة الحادثة هل أتاك حديث ضيف إبراهيم ، ويطلق مجازا على الأمر الذي من شأنه أن يصير حديثا وهو أعم من المعنى الحقيقي .

" فالحديث " هنا إن حمل على حقيقته جاز أن يراد به القرآن كما في قوله - تعالى - : فليأتوا بحديث مثله فيكون الضمير في قوله بعده بمعنى بعد القرآن ، أي بعد نزوله ، وجاز أن يراد به دعوى محمد - صلى الله عليه وسلم - الرسالة من عند الله ، وكلا الاحتمالين يناسب قوله أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة .

[ ص: 199 ] والباء في قوله فبأي حديث على هذا باء التعدية لتعدية فعل " يؤمنون " ، وإن حمل على المجاز شمل القرآن وغيره من دلائل المصنوعات باعتبار أنها من شأنها أن يتحدث الناس بها كما في قوله فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون فيكون الضمير في قوله بعده عائدا على معنى المذكور أي ما ذكر من ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم وأفرد الضمير لتأويله بالمذكور كما في قوله - تعالى - وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا في سورة النساء أي فبأي شيء يستدل عليهم غير ما ذكر بعد أن لم ينتفعوا بدلالة ما ذكر ولم يؤمنوا له فلا يرجى منهم إيمان بعد ذلك .

والباء على هذا الوجه للسببية متعلقة ب يؤمنون . و بعد هنا مستعارة لمعنى " غير " لأن الظروف الدالة على المباعدة والمفارقة تستعمل استعمال المغاير . قال - تعالى - فمن يهديه من بعد الله ، وحمل بعد على حقيقتها هنا يحوج إلى تأويل ، ويخرج الكلام عن سواء السبيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية